بروميثيوس مُسَلسَلًا بسلسلة الظهر

30.6.08

پروميثيوس(*) مُسَلسَلًا بسلسلة الظهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


رُخٌّ من الآجال غادرَ عشَّهُ
والليلُ حبرٌ في دواةٍ أرملَهْ
بلَّ السحبْ
وتقاطرتْ ظلماتهُ
في رعشةٍ بيد الإلهِ إذا كتبْ
ليسوِّد الصفحاتِ ألْفًا في الدهور المقبلهْ
حين انسكبْ
ناديتُ إنسي أن يساير نعشَهُ،
وأمرتُ قلبي أن يصافح قاتلَهْ
فمحابرُ الأقدار تملأُ نقشَهُ،
ومحابر الأقدار تُسكب في الأُلِـمْبْ
إني أكافح في سبيل الناس ربًّا ثمّ ربّْ
والناسُ موتَى في الليالي الفاصلهْ
ومحابر الأقدار تُسكبُ كالنبيذِ،
وتُسكِرُ الأربابَ في قيعان كأسٍ مُوحِلهْ
والخالدون يؤلفون كما أرادوا غيبَهم من بعد غيبْ
فأنا مليكٌ دون شعبْ
وأنا مليكٌ دون شعبْ
هل أسأل الربَّ انتصارًا،
هل سأطعنه ببدء البسملهْ ؟!!

* * *
بين السما والأرضِ أطفو
في حديد السلسلهْ
السحْبُ فوقي حين تمطرُ
تمطر الملحَ الأُجاجْ
شاء الإلهُ ليجعلَهْ
كي يُحرق الجرحَ المعربدَ في الكبدْ
لو كان للجرح الدوا
ألمُ القيودِ بلا علاجْ
الروحُ يأسرها الجسدْ
وإرادتي محبوسةٌ من خلف أضلاع الرتاجْ
لو أنني حرّكتُ جسمي سوف تسمع صلصلهْ
لمَ ذي القيود وكلُّ جسمي ينعقدْ
وعلائم الأظفار في أعضائه متواصلَهْ؟
الرِّجْلُ حبلٌ شدّني في خطوتينِ على السطوح المائلَهْ
والأرض كانت تحت رجليّ الوتدْ
لا فرق بين سلاسل الظهر التي انتشبتْ بجسمي
في اختلاقات الجنينِ
وبين قيدي
في اختلاقات البطولةِ
غير أني خالقٌ
أثناءَ هذي المرحلَهْ
رحم الرياح يضمني
مُتخلِّقًا حول السلاسل في يديّا
مُتكلمًا في مهد تأليهي صبيّا
فسلامُ كلِّ العائلَهْ
فسلامُ كلِّ العائلَهْ
في يومِ أُولدُ،
يومَ أحيا
ثم أحيا
دونَ موتٍ
ثم أحيا .!

* * *
يا ربَّ أرباب السما
إني يمزّقني التماسكُ في عصور الزلزلهْ
البحرُ يلفظ شطَّهُ،
والأفْقُ يلقي شمسَهُ،
والأرضُ قاءتْ ميتًا في الحيّ يسري في الدِّما
ويعود يُبعثُ حين يسكن آكلَهْ
لا شيءَ يأتي من عدمْ
لا شيءَ يذهب في عدمْ
فلمَ العدمْ؟!
في داخلي كلُّ العوادمِِ،
والعوالمِ
كالسواقي في دمائي،
واحتشائي
في فؤادي
يمنحُ القلبَ الظلالَ إذا نما
والقلبُ يمشي في الظلالِ القاتلَهْ
قلبي مريضٌ ليس ينبضُ
غيرَ أن النارَ تسري في ثناياه كجمرٍ
حين يُظلمُ فاحِـما
قلبي مريضٌ
أيُّ رخٍّ من طيور الربِّ يأتيني
لكي
يستأصلَهْ ؟
ففؤاديَ المُسودُّ يُحرقني إذا هبتْ من الرئة الرياحُ مُحمّلاتٍ باجتياحي عالمَا
ورجوعيَ المهزومِ شَهْقًا
حين أغرق في دمائي السائلَهْ
قلبي هو النار التي أعطيتُها لبني البشرْ
قلبي خطيئة سقطتي،
وأنا كصحنٍ
يحمل الأكبادَ للأطيارِ طُعمًا،
قد رماني الربُّ أرضًا من سماه لأنكسرْ
فحملتُ قلبي في اعتزازٍ بالخطايا الفاضلَهْ
قلبي الخطيئة لم يكن ثمرًا تتدلى من شجرْ
قلبي الخطيئة كان جمرًا من سقرْ
فحضنتُهُ،
وحملتُ فقْراتي صليبًا نابتًا في الجسم يحمل حاملَهْ
أوّاهُ كيف سأنتصرْ؟
يا ربَّ أرباب السما
ماذا سأفعل في قتالِكْ؟
إني وحيدٌ في جلودي العازلَهْ
إني طريدٌ من ظلالِكْ
أرحمتَ أولادَ الشوارعِ في الأراضي السافلَهْ؟
وهجرْتَني،
وأنا صغيرٌ من عيالِكْ؟
ماذا سأفعل غير أن أستلَّ سيفي ثم أهوِي في المهالِكْ؟
ماذا سأفعل بالقضايا العادلَهْ؟
ماذا سأدرك من كمالِكْ؟
هل سوف أجلس في زحام الحافلَهْ؟!
هل مِن طريقٍ للسما
إلا بقفْزي من خلالِكْ؟
يا ربُّ إنكَ عالمٌ حالي
كما أنا عالمٌ أيضًا
بحالِكْ
يسّرْ لأمري قفزةً تُلغي المسافةَ بين أرضي
والسماءِ المُقبلَهْ
وأنا أكونكَ مرةً
وأنا أكونكَ مرةً
حتى أكفَّ عن افتعالِكْ .!

* * *
أنا سيدُ الشهداءِ أُقتل كلَّ ليْلْ
روحي طموحٌ فادحٌ،
عيني شموسٌ آفلَهْ
الناس ثاروا للمرتّبِ حين قَلّْ
وأنا اشتعال النار يطردني إلهٌ
لا ينجّيني (هِرَقْلْ)
ويُطيح كل الناسِ بي
لو ما رأوني عنصرًا
في طرْف أيِّ معادلَهْ.

* * *
رخٌّ من الآصالِ يأتي،
الأفْقُ عرْضُ جناحِهِ،
والريحُ خَفْقْ
في مطعمِ الكونِ القوائمُ حافلَهْ
كبدٌ متبّلُ بالدماء الطازجاتِ،
وخلطةٌ مثلَ المطاعمِ في البلاد الأجنبيةِ دونَ فرْقْ!
هِمْمْ..ليس طعمٌ مثل طعمِ ضحيةٍ
فوقَ الطِّباقِ مُكبَّلَهْ
أقبلْ عليّ بدون رفْقْ
أنا هيت لكْ
أنا هيت لكْ
فاكبحْ جماحَ مجاعةٍ تتملككْ
لا تنسَ فنَّ الإيتكيتِ،
اغسل يديك قبيل أكلك صيدةً
بمصايد الرب الإلهِ لكَ انتقاها
كَلْ قطعةً
كَلْ قطعةً
بالشوْكِ والسكينِ،
والعقْ عظمتي
لكنْ بذوْقْ
غادرْ بلا دفع الحسابِ
فأنت مدعوٌّ لتأكلَ لحمتي ممن براها
أنا ليس لي أيّ اعتراضٍ
لحميَ المخلوقُ رزْقْ
لكنني..
يومًا ستبلغ كلُّ روحي في صراخي منتهاها
وأنا أصيح بدون حَلْقْ
ولسوْفَ يأتيني (هرقلُ)
تُزلزلُ الأولمبَ خطوةُ رجلِهِ،
يهفو فؤادي لو خَطاها
أهرقلُ أقبِلْ
إنني ما كنتُ يومًا غيرَ ربٍّ واحدٍ
من دونِ جمهورٍ
وخَلْقْ
أنا لستُ أملك كبرياءَ الإنسِ
أو زهوَ النفوس الفانيات إذا تملَّتْ في فَناها
فاصعدْ أُلمبَكَ دونَ فوْقْ
اصعدْ وكسّرْ في السلاسلِ
ردِّني أرضًا لأخلقَ من ثراها
خُضْ نارَ حربكَ بالبطولةِ
لا تخفْ
مزّقْ جلودَكَ وانكشفْ
حطِّمْ قيودي
حطّمِ الأربابَ جَمْعًا
لو صرعتَ زِيُوسَهُمْ
كنْ في سبيلي
في سبيلي كنْ
إلـهَا .!

ــــــــــــ
(*) بروميثْيوس Prometheus = Προμηθεύς أحد آلهة الإغريق، أو هو طيطان Titan على وجه الدقة، قيل أنه خالق البشر في الميثولوجيا الإغريقية، سرق النار من جبل الأولمب وأهداها للفانين-البشر، فعاقبه زيوس بأن سلسلهُ بين جبلين، وسلّط عليه طائر الرخ ليأكل كبده كل يومٍ، ثم ينبت له في اليوم التالي كبدٌ جديد، وهكذا استمر عذابه إلى أن أنقذه هرقل البطل البشري الفاني.(اللوحة للرسام العالمي روبنز Peter Paul Rubens المتوفي في 1640)

كريم الصياد
5-6-2008

تجربتي من الطب إلى الفلسفة

29.6.08


تجربتي من الطب إلى الفلسفة:

التحقتُ بكلية طب قصر العيني(جامعة القاهرة المأسوف عليها)عام 1999-2000م، وكنت من متفوقي الثانوية العامة بطبيعة الحال، وبعدها بعامين قمت بتحويل أوراقي إلى كلية الآداب-قسم الفلسفة، مثلما ترك الزميل أحمد حمدي كلية العلوم إلى الكلية نفسها والقسم نفسه، ولكنْ لأسباب مختلفة...

إن دراسة الطب-أو على وجه الدقة العلوم الطبية الأكاديمية من فيزيولوجي وتشريح ..إلخ-من أمتع أنواع الدراسة وأكثرها جذبًا، وأذكر أن أجمل لحظات دراستي في الطب كانت في المشرحة بين الجثث بلا مبالغة، كنتُ أتظاهر بالقرف لكي أبدو أمام الأصدقاء آدميًا، لكنني كنت مستمتعًا بالاطلاع على الطبيعة البشرية لهذه الدرجة، وكنت أفتخر بما أدرس من فيزيولوجيا الجسم البشري وتشريحه وهستولوجيته(علم أنسجته) وكيميائه الحيوية، وأعتبر نفسي قاب قوسين أو أدنى من الروح ذاتها.

لكن حكايتي مع الفلسفة كانت أسبق بكثير، أذكر أنني كتبت مقالًا هو أول مقال لي في الفلسفة في سن الرابعة عشرة( صيف عام 1996)، وكان بهذا العنوان"حكايتي مع الفلسفة"وكانت فكرته الأساسية أن أقوال الفلاسفة متناقضة، وأن علينا أن نختبر كلًا منها في هدوء وتأنٍ، وأن الفلسفة ليست هبة سماوية بل بؤسًا أرضيًا، وأنه لا يوجد طقس للتفلسف خيرٌ من المعاناة والألم، وأن فائدة الألم هي الإبداع والكتابة(كنت أكتب قصصًا وشعرًا وروايات في هذه السن أيضًا)، وأن ضجيج الجيران وضوضاء الشارع بما تحمله من معاناة وتحدٍ لملكة الإبداع والحلم أفضل من الهدوء والدعة والجنة ذاتها، وهكذا اخترت طريقي إلى الجحيم..هذا موضوع يطول شرحه، قد نتحدث في موضوع الجحيم هذا لاحقًا، ليس الآن.

كنت أقرأ لأفلاطون وعن سقراط(الذي لم يترك كتبًا)وعن أوغسطين وأنسلم وتوماس الأكويني وسكوت أريجينا وسارتر ونيتشه وكانط وهيجل وماركس وعباس العقاد وغيرهم قبل أن ألتحق بالطب، أي قبل أن أكمل السابعة عشرة، وبالطبع بدأت بالقراءة عن.. قبل أن أبدأ بالقراءة لـ..، وقد انبهرت مبكرًا(في سن الخامسة عشرة)بالنازيين والشيوعيين على الأخصّ، أي أنني انبهرت بمن غيروا العالم لا بمن فسروه، وظللت منبهرًا بهؤلاء الذين غيروا الخرائط والتاريخ بكتب تحمل بضع مئات من الصفحات، وكان أصدقائي وأخواي ومن عرفت من الأتراب يميلون إلى الدين حين تنتابهم نوبات الجدية والتفكير في المصير، لكنني كنت أفضّل الطريق الصاعد، أن تبدع أفكارك ومبادئك ومذهبك وأخلاقك ونظريتك السياسية، وأن تتمسك بها، وأن تتحكم في مصيرك بكل هذا، وكنت شديد الثقة في العقل-أكثر مما أنا عليه الآن في الواقع-وفي العلم والموضوعية مع تأثري بفلسفات الإرادة الألمانية: الإرادة الخيرة، الإرادة العقلية، إرادة الحياة، إرادة القوة، وانفتحتُ على عالم الفلسفة الوجودية، وتصورت كيف يمكن للمفكر الوجودي أن يكون مصلحًا عَلمانيًا يقوّم شعبه ويوحده بغض النظر عن دينه، وكيف أمكن للروح الوجودية(في الحركة النازية)أن توحد شعبًا ليأخذ حقه ويذل من ذله، وما زلتُ أعتبر النازيين آخر الرجال على سطح الأرض حتى الآن، لم يتركوا خلفهم سوى النساء والأطفال ليذبحوهم الأمريكان والصهاينة ودعاة العولمة ورجال المال والأعمال.

وكان وما يزال الأدب بالنسبة لي مجالًا للتعبير عن الفكر، أو فلنقلْ أنه مجال من مجالات تحقق الفكر وتجلّيه، لهذا تضافر اهتمامي بالأدب إبداعًا ونقدًا وتذوقًا مع اهتمامي بالفلسفة، فصممتُ على التحويل من كلية الطب إلى كلية الآداب، وكنت على ثقة من أنني سأكون الأول على الدفعة وأنني سأُعين معيدًا، وكان أملي أن أقف ذات يوم لأشرح للشباب أفكاري وأفكار الآخرين، وأن أدفعهم للنقد بجرأة بدون رقابة أو قداسة أو خوف، وأن أقيم أبحاثهم ورؤاهم البدائية وأقوّمها، ولم آخذ قرار التحويل بسبب الاعتراضات العائلية إلا بعد عامين، درستُ فيهما العلوم الطبية سالفة الذكر، وضربت الحائط بكل الاعتراضات بعد أن تأكّد لي أن مصيري إلى الفلسفة والأدب، وربما يكون مصير الأدب والفلسفة لي.

في كلية الآداب حققت تفوقًا ربما لم يحققه طالب في الجامعة المصرية، كنت أقدم أبحاثًا تحمل أفكارًا ناضجة من الترم الأول لي بالسنة الأولى، وكان بعض الأساتذة يرفض مناقشة أبحاثي علانية بسبب أفكارها التي هي فوق مستوى هذه المرحلة الدراسية(على حد تعبيرهم)، وبدأت نشر أبحاثي العلمية في دوريات علمية كمجلة "أوراق فلسفية" المصرية في السنة الثالثة، وبالطبع غرقت في إحساس عظيم بالنشوة والتفوق، وبدأت أفهم أن الهدف من الحياة بالنسبة لي هو نشوة التفوق وتجاوز الذات(التفوق على الذات)، وكان لي نفوذ غريب في القسم، بعض الأساتذة تشاجرتُ معهم علنًا وبصوت مرتفع وأمام الطلبة وكنت طالباً في الليسانس ما أزال ورفضتُ قطعيًا مصالحتهم لأنهم هم المخطئون(حسب تعبيري ساعتئذٍ)، وهو سلوك خطير جدًا بالنسبة لطالب يريد أن يُعين معيدًا، وكان الأساتذة هم الذين يتركون المحاضرات بسبب حدتي عليهم، المرة الوحيدة التي طُردتُ فيها من المحاضرة كان بسبب نظرية التطور الأحيائي لدارون، حيث سأل الأستاذ عن رأينا فيها، فقمت وأجبت بأن علماء البيولوجيا المتخصصين وحدهم هم أهل الفتوى في هذا الشأن، وليس نحن ولا أي مسيخ دجال من رجال الدين يدعي العلم بما لا يفقه، وأكّدتُ على حقيقة أن النص القرآني في مسألة خلق الإنسان قابل للتأويل، فطقطق زملائي بألسنتهم رفضًا وطلب منّي الأستاذ أن أترك المدرج، فجلستُ مكاني ولم أتركه، ثم وجهتُ للأستاذ ذاته شكوى من هذا الموقف، فوعدني ألا يتكرر هذا، وفي العام التالي شكوته أيضًا فصعق لأنه نسي الموقف ثم تذكر التفاصيل واندهش كيف فعل هذا أصلًا !!

الحقيقة أنني كنت أعتبر أن الأستاذ الذي لا يعطيني امتيازًا إما لا يقرأ أوراق الإجابة أو لا يفهم في الفلسفة، وهذا غرور، نعم ! من قال أنني لست مغرورًا ؟! هل أوحى كلامي من قريب أو من بعيد بقيمة التواضع؟ لكنني لست كاذبًا والحقيقة أثمن من الخير.

هذه مجرد مقدمة عن التجربة، فما زلتُ أتأملها من بُعد بَعد تعييني في الجامعة وإصداري لديوان شعر ثم كتاب في الفلسفة بالتحرير والمشاركة، وللحديث بقية، ونهاية.

28.6.08




" كرسى ناقص رجل "


بقلم : أحمد حمدى



هناك من الاحداث ما قد يكون ذا دلالة ومعنى ومغزى عميق فى حياتنا الشخصية و التى تتقاطع بالضرورة مع حياتنا العامة وتصيغها وتشكلها فى ان واحد , كان الحدث هو مهرجان النطاق للفنون وقبل ان اتحدث عن تلك الروح التى تسربت الى من خلال مهرجان النطاق لعام 2000 والتى لم اكن على وعى تام بها اتحدث عن حدث شخصى وهو فشلى فى كلية العلوم .

لم يكن لى فى هذه الدنيا من طموح الا ان اصبح طالب فى كلية العلوم استمتع بمغامرات البحث العلمى الطبيعى وبمتعة الدخول لمعمل وتشريح كائنات ورؤية عوالم . وبالفعل تحقق الحلم واصبحت الطالب رقم 448 -98 كيمياء بيولوجى وكانت اول صدمة لى ان اتحول لمجرد رقم وان يطالبونى بعملية ابعاد تام للذات بكل تصوراتها عن العالم الطبيعى عملية تجريد للذات وطمس لمعالمها الراغبة ليس فى مجرد التعامل الاداتى مع العالم ولكن التعامل الذى يبغى فهم العالم وتمثله و الوقوف على معانيه ومغازيه لم استرح وانا لا ارى مجال بحثى فى مصر يلبى حاجة باحث طموح يتعدى رؤية العلم كاداة تكنولوجية الى رؤية العلم كاداة تساعد الذات فى تمثلها للعالم كانو يقولون اشياء غير مفهومة ويهتمون بالتطبيق وكانى اصبحت ترس فى اله وهى ساكنه لا تتحرك فالبحث العلمى فى مصر يعانى من الموات وكانت صرختى كيصالنى اى العلم ليساعد الذات على تمثل العالم تعلن نفسها كاعتراض واضح على ماذا ؟ على المنهج القديم الموضوعى للعلم ام على تحويل العلم لاداة تكنولوجية لاتحقق ولا تخدم الا عالم الاقتصاد والمادة و المال عالم جاف لا يعنى اكثر من تموضع مادى سخيف .

ولاول مرة اشعر اننى اريد ان اصرخ واعلم ان صرخاتى لن تسمع فانا مجرد طالب بالفرقة الثانية لن يقدم ولن يؤخر اننى 448-98 وفقط فى الوقت الذى كنت ارى فيه اختى فى كلية التربية الفنية لا تجد ما تقوله فى اعمالها الفنية لتعبر عن افكارها الذاتية والشخصية والحرة لقد اقتنعت ان الفن للصراخ وان الصراخ هو الفن اذا كان للصراخ من شكل فكنت ارى اعمال تصرخ باعلى صوت انجدوا الانسان فى هذا العصر.

تمخضت صرختي عملا فنيا من ذلك النوع الذي يتحدى الإطار واللوحة ليعبر بمواد من حياتنا المعيشية عن أفكارنا وآلامنا انه العمل الفني المركب " كرسي ناقص رجل " وقد قدمت العمل لصالون الشباب الثاني عشر وبعد نقل العمل أكثر من مره لتراه لجنه الصالون رفض العمل ودمر تماما في مخزن الصالون وقيل لي رُفض عملكم أي صرختكم رأيت نفسي مهرولا من ميدان الأوبرا عبر كوبري قصر النيل أصيح: "رافضين على رفضكم من ألف حالة موت رافضين وبنقولكم مهما يكون رفضكم رافضين" وذهبت لمعارض أرى فيها الصرخات إنها معارض لا تنتمي لوزارة الثقافة
كان الإعلان عن تقديم أعمال لمهرجان اسمه النطاق تحت رعاية مؤسسات خاصة ترعى الفن وبإشراف اليونسكو قد ظهر على باب الصالون بعد عدة اشهر تقدمت من جديد بنفس العمل فقبل وذهبت انقله وأنا سعيد وحزين في آن واحد إلى مبنى تاون هاوس جاليرى الفن المعاصر الكائن في شارع نوبار وجدت هناك امرأة اسمها ستفانيا ولم أكن من قبل أخذت أي نوع في حياتي من تقدير الذات أو الاعتراف بها ككائن بشرى له قدرة على الإبداع فكل حياتي كانت محض سخافات تشعرني أن البرص ربما يكون له احتراما أكثر منى قابلتني ستفانيا وهى تنظر لي كعبقري استطاع أن يقدم صرخة صادقه تستوقف الانتباه وقالت لي لقد تم اختيار القنصلية الإيطالية لعرض عملك غريبة هي ارض الوطن ترفض دائما الصدق عندما يتجسد عملا وبالفعل نقلت العمل ونصبته في القنصلية الإيطالية ووقفت بجواره اشرحه لأجانب ومصريون يعجبون به ويشكرونني عليه ويحتفون بي كانسان أولا و كفنان يصرخ ثانيا ومن هنا بدأت حياتي في مرحلة جديدة ودخلت كلية الحرية وكرامة الإنسان اقصد الآداب قسم التحرر واقصد الفلسفة وهناك وجدت ذاتي بانتظاري لتعبر بي الآلام لعالم الفرحة حين يتجسد فلسفة.

يهمني أن اذكر انه تم الاعتراف بي كفنان وناقد فني من قبل وزارة الثقافة والصالون ذاته بعد ثلاث أعوام تقريبا
قيل عن مهرجان النطاق الكثير اذكر منه ما ذكرته مجلة فنون مهرجان النطاق يثير الهواجس ويقدم مفاهيم جديدة للفن فباشتراك فنانين أجانب في هذا المهرجان وبفكرته العبقرية التي تنشر الفن في كل ركن من أركان المدينة وتحتفي بالفن الصادم والصارخ والغريب والدخيل كان مولد ثقافي بحق يعزز مفاهيم ما بعد حداثية ولذا كان صادم للمثقف الحداثي التقليدي وظهرت لأول مرة تعددية ثقافية وتواصل إنسانى بين فناني العالم المغتربون والمهمشون فكنا في النادي اليوناني نهلوس بالفن وللفن ومن اجل الفن ولن يستطيع البوليس أن يغلق المعرض لأنه في وجوه الناس في مولد الدنيا في اللا مفهوم الذي لا يهدد أي أحد بأخذ موقعه هنا أصبحت ما بعد حداثي.
ترى ما هذا العمل الذي غير من حياتي؟؟
انه " كرسي ناقص رجل "

ما هذا الذي أمامنا ?
أجيب في لوحة من ورق محروق:

"ببساطة.... من غير تعقيد
ولا باقدر ع التقنية
عملى دوا 100 %
كرسى ناقص رجل
عايشين نشرب ميه طراوه
ولا بنشرب لاجْل نعيش
وآدى كلوب
مفهيوش جاز
ميهمّش
من غيره برده ها عيش واتمتع
واشرب صودا ومِنِرال وُوتَرْ
دا مفيش جازْ .!
"

عناصر العمل:
•الزير
•كرسى ناقص رجل
•الكلوب
•الورقة المعلقة فى الخلفية وعليها الشعر المذكور بالأعلى
•كاب على الكرسى للشعور ببقايا الحضور الإنسانى
ورقة طائرة وضعت بجوار العمل مكتوب عليها:

•هل أعجبك هذا العمل ؟
•إنه لا يعجبنى إنه قبيح أين الاتزان فيه؟
•لابد أن أضع الجاز فى الكلوب وأن أصلحه حتى ينير
•وأن أبيع الإطار الذهبى الذى يزين الزير وأن أتجاهل ذلك الزير قليلاً
•لا لن أفعل ذلك وحدى ستفعله معى
•هل فهمت الرسالة هل فهمت صرختي؟
•نهتم اهتمامًا مبالغًا فيه كأفراد أو مؤسسات أو كأوعية ثقافية على حد سواء ونسخّر كل قدراتنا التكنولوجية والعلمية وحتى الفكرية والفنية وربما الروحية فى خدمة شىء واحد هو الزير.
•احتياجاتنا الأولية شهواتنا الدنيوية كأفراد وكمجتمعات ونقول بكل جراءة هذا ما يبغيه الإنسان من حياته لقد نسينا حقيقة الإنسان واحتياجه الأساسى للنور، للمعرفة، للفن، للكلوب ( المهمَل )، عالم كهذا وإن استمر فلابد يومًا من أنه سيقع فجأة ودون أى مقدمات أو بوادر لأن الإنسان سيفقد ذاته الحقيقية لأن: الكرسى ناقص رجل !!


تحليل العمل: الزير: (العنصر اللافت للنظر)
•الزير عنصر من التراث ورغم ذلك فهو موجود فى مصر بشدة كوسيلة ممتازة لحفظ الماء وفى كل مكان مهما اختلف المستوى الثقافى فالزير موجود فى الزمالك وفى بولاق الدكرور فى كل مكان، مما يشعر الواقف أمام العمل بنوع من الألفة لرؤيته، الزير الذى يعرفه أن لم يكن يشرب من الماء البارد.

الزير يدل دلالة واضحة فى الثقافة المصرية على اللذة بجميع أنواعها نقول على هذا زير نساء أى رجل يغوى النساء , هذا زير أى لا يكفيه أى مال ولا يشبع و هكذا , دارج فى الثقافة المصرية.

تم استخدام عناصر إضافية تدخل مع الزير فى علاقة مفارقة عن وجوده الواقعى، وهو الاهتمام المبالغ فيه بحامل الزير حيث تم طلاؤه بالذهب، وكذلك غطاء الزير مزين بشريط ذهبى، إن الزير بعد هذه الإضافات بدا كعروس محتفى بها، وهذا مقصود، فالزير ببساطة رمز للمادة والمادية والشهوية والاستهلاكية فى حياتنا وهى موجودة فى صورة محتفى بها.

الكرسي:
•كرسى طرزان عادى يميل الى اللون الداكن
•منزوع احد ارجله
•وهو رمز للنظام ككل
•يبحث عن حالة اتزان

الكلوب:
•جهاز يستخدم فى الاضاءة بواسطة الجاز
•يبدو اكثر العناصر مهملة فى العمل
•يرتبط بالنور

الورقة:
•ورقة تميل الى الصفرة محروقة الاطراف معلقة على الحائط كلوحة
•مكتوب عليها كلمات مموسقة، وهى المذكورة عاليه بدايةً من "ببساطة"
هناك ملحوظة هامة وهى ان الصورة الموجودة للعمل ليست دقيقة حيث انه قبل العرض تم اجراء بعض التعديلات على العمل من قبل الفنان فالعمل الذى عرض لا يوجد به اى عناصر كمبيوترية ويحتفظ الزير فيه بشكله الاحمر الطوبى دون اى تعديلات فى الزير كذلك تمت اضافة عنصر الا وهو الورقة المحترقة الاطراف وكتب عليها بعض من الشعر العامى.

أحمد حمدي



الفردوس اللامفقود_قراءة مغايرة

23.6.08




الفردوس اللامفقود_من أوراق مسيخ دجّال
قراءة مغايرة
إعداد : أحمد حمدى حسن


إبليس , الملائكة , الجان , الإنس , الجنة , النار , الفردوس , المسيخ الدجال ...... إلخ وغير ذلك من الكلمات التى أصبحت موضوع علم الميثولوجيا الدينية للشعوب , ماذا يحدث لو تجاهلناها ووضعناها على جنب نشاهدها وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة فى هدوء ؟ ماذا لو استبدلنا بها كلمات أخرى : كالعدالة و الحرية و المساوة وكرامة الإنسان ورغد العيش والتقدم , وماذا لو استبدلنا بالسؤال عن حقيقتها وماهيتها؟ وما كنهها؟ وما جوهرها؟ السؤال عن كيفية الوصول إليها ؟ وما أنجزناه وما سننجزه من أفعال عبقرية خلال محاولة الوصول .


سؤال الحقيقة سؤال هام وعلى الرغم من أهميته تنكره الفلسفة اليوم لتضع مكانه سؤال أى رحلة ستسلك من أجل بلوغها ؟ وما مدى ثراء تلك الرحلة ؟ هناك من يرى أن وجود مثل هذه الكلمات الميثولوجية فى الواقع وجودًا كبيرًا وجوهريًا ولا نستطيع تجاهله وإنشاء قطيعة معرفية معه نستطيع اللعب فيه من الداخل وتفكيكه , وأنا أول هل ستصمد تلك الميثولوجيا مع الشركات لمتعدية للجنسيات ومع آليات الرأسمالية و العولمة والنظام العالمى الجديد التى لا تعرف إلا الإنجاز والقدرة عليه . ليس هذا موضوعنا على أية حال .


تعنى كلمة إبليس وهى كلمة يونانية الأصل : المشتكى زورًا أى الذى يلبس الحق ثوب الباطل ويلبس الباطل ثوب الحق , وفى العرف العصرى ولتقريب المعنى الأبالسة هم أولئك الذين يستخدمون ما يعرف بالواسطة أو الشفاعة حيث يزورون الحقائق , أو أولئك الذين يسمون الرشاوى عمولات و إكراميات وهدايا , أو الذين يمتهنون مهنة شاهد زور بجوار أى محكمة . أظن كلنا نعرفهم .

أما كلمة شيطان فهى كلمة عبرية تعنى المقاوِم , وفعل المقاومة كما يقول العرب فعل مشروع وهو أسلوب من أساليب التعامل مع السلطة , ربما نتعاطف مع الشيطان كمقاوم ولكن لا أظن أن أحدًا يتعاطف مع إبليس ككاذب , فالكذب أبو الرذائل , وأخطر أنواع الكذب هو الكذب على الذات أى التناقض أى أن أقول أنا أكره الكذب وأمارسه , وفى التجربة الأخلاقية الإسلامية يقال أن الكفر أحسن من النفاق لأن الكافر لا يكذب على نفسه ويقول أنه مقتنع بشيء هو غير مقتنع به .

ارتبط اسم إبليس بالفلسفة منذ صدور كتاب "تلبيس إبليس" وهو كتاب يهاجم الفلاسفة باعتبارهم يلبسون الحق بالباطل ونسى هذا الكتاب أن الفلسفة هى إعمال عقلى محض ومعيار خارجى لقياس الأمور على أسانيد عقلية ربما تكون أساسًا فى الدخول إلى الدين من أصله أو قبوله فالتعقل أولًا ثم الإيمان ثانيًا وهكذا يقر الدين الإسلامى على وجه الخصوص .

هذه كلها خواطر قبل الولوج للنظر فى مقالة الفردوس اللامفقود من أوراق مسيخ دجال والذى يستخدم الفن الأدبى الرمزى ومحاكاة الميثولوجيا الدينية لتفكيكها ونقدها من داخلها وهو يرسى رغم ذلك بعض القيم . كدفاعه عن المسيخ فى قوله " مسخ المسخ خلق واستواء، وأن كذب الكذب عين اليقين، وأن قتل الميت عناية مركزة." أظنكم تذكرون قصة الخضر مع موسى فالخضر قتل الطفل وخرق السفينة وبنى الجدار فالشر ليس دائما شرًا , والخير ليس دائما خيرًا , فى إطار رؤية أوسع ومنظور أكبر. " للشر وللخير معنيان : للمعنى الواحد الآلاف من الألوان للون الواحد معنيان فهل نفقأ الأعين فلا نرى الألوان " إن مركزية الثنائية خير / شر فى الفكر العربى هى ما يعرف بالاستقطاب , وهو أصل كل مشكلة ثقافية , فالعالم لا يعرف ذلك الاستقطاب وتلك الثنائية , فالأرض كروية والعالم كروى تتساوى فيه كل النقاط فى القيمة لا أعلى ولا أدنى فلا الخير أفضل من الشر أو الشر أفضل من الخير , نعم للشر قيمته ,وللخير قيمته .ليست هذه هى القيم التى يرسخها الكاتب هنا ولكن وجدتها فرصة للحديث عن مشكلة الثنائية والاستقطاب فى الفكر العربى أو مشكلة (إما/ أو) الشهيرة.

لكن القيمة هنا كامنة فى الرغبة فى الفعل الإيجابى والإيمان بأن نفى النفى إثبات فإذا كان الواقع يحتاج لنفيه فذلك لأنه انطوى على نوع من النفى وذلك كله من أجل الإثبات والإثبات إيجاب فتدعو المقالة للإيجاب لا للهدم وهو أمر غريب فى ظل ثقافة وفكر عالمى معاصر محبط يرى العدم والسلب ويرفض الإيجاب . فحرص الكاتب على الإيجاب لا السلب الذى هو العدم أمر بتأمله نكتشف القيمة النبيلة فى رفض العدم.

بعد ذلك وعبر الأجزاء الأولى من المقالة نلمح أن الإبليس هنا هو الإنسان كفعل ثقافى إيجابى وهنا يظهر البعد المسيحى فى الفكر العربى كما كرسه أو ساهم فى تكريسه الاستعمار الأجنبى , وهو الذى يتخيل أن الشجرة التى أكل منها آدم بغواية إبليس هى شجرة المعرفة ,أو حبس أى نشاط حر للذات , فى حين أن النص الإسلامى يقول بأنها شجرة للملك والسلطة الدائمة أى شجرة الاستبداد والقمع , لا شجرة المعرفة والثقافة الإنسانية كما فى سفر التكوين .


لم يكن إبليس يخشى في الحق لومة لائم و هنا نجد ثانى قيمة نبيلة الثبات على الحق مهما ضايقتك السلطة سواء كانت حكومة أو سلطة اجتماعية كامنة فى التشهير والتنفير منك .

ويهمنى الآن أن أصيغ مبادئ حزب الشيطان بشكل مختلف لنقف على القيم التى تدعو إليها المقالة . مبادئ حزب الشياطين:"1. الحرية أسمى من الخبز، والخبز ألذّ من الدين، والدين علاقة رأسية بين الجن والربّ، لا بين الجن والجن."
1 - الحرية , العلمانية ( الدين علاقة خاصة بين العبد وربه لا دخل فيها للمجتمع ) فالمجتمع دورة تأمين حاجات الإنسان الاقتصادية المادية .
"2. العلم والفلسفة لا يتفقان منهجيًا مع الدين، وأي محاولة للتوفيق فاشلة، وفي حالة أي تعارض يجب أن يؤوّل الدين لمناسبة الواقع التجريبي، والاتساق المنطقي.(وهو المبدأ الذي ظهر عند ابن رشد في فصل المقال)"
2 - الفصل التام بين الدين والفلسفة والعلم فالدين مجاله الاعتقاد والفلسفة والعلم مجالهما الحقائق والمنفعة.
"3. لا فضل لجني على جنيّة، والتعليم والتربية هي الفيصل لا الجنس.(وهو ما صرّحت به ماري وولستون كرافت في 1792م)"
3 - المساواه والعدالة الاجتماعية واحترام كرامة الانسان "4. كل ملكية سرقة.(وهو المبدأ الذي تكرر بعد ذلك عند جوزيف برودون)"
4 - مبدأ رفض الملكية . أى رفض الفكر الليبرالى.
" 5. في الدولة الثيوقراطية الدكتاتورية يكون الجنون خيرًا من العقل، والكفر خيرًا من الإيمان، والجهل أفضل من العلم، والحرب أشرف من السلام."5 - الديكتاتورية كمبرر للجنون و الإلحاد والجهل و الحرب .


"-ونظرًا لأن هذه المبادئ والأهداف كانت موضعًا للتنفيذ الفعلي والعاجل وسط أغلبية ساحقة فقد بدأ عهد جديد لم يتكرر في تاريخ الجن من الحرية والعدالة، وعلى رأسه تُوّج-دون منصب تنفيذي حقيقي-محمد علي:إبليس، المنتصِر"


إن الحديث عن مثل هذه المبادئ باعتبارها مبادئ إبليسية يجسد كمَّ ما وصلنا إليه من رفض لها رغم أنها مبادئ نبيلة هامة لا يستقيم المجتمع الإنسانى بدونها باستثناء مبدأ لا أتفق معه هو رفض الملكية لأنى لا أرى له مبررًا ( ليس ذلك موضوعنا الآن ) ثم كان انخراط إبليس فى المثالية وانتهاء عصر الجن الأول.

الصيغة المباشرة فى المقال أو التوجيه فيه:
" ألا أن الساعة اقتربت، والأقمار انشقت، وما من شيء ببعيد إلا الرحمة، فاخلعوا الأردية والأعضاء البشرية السخيفة، وموتوا بصدق، موتوا بشرف، ثوروا على هؤلاء المخادعين وكونوا شياطين حقيقيين، ارفعوا رءوسكم يا إخواني، فقد انتهى عهد الإنسان، لا تسجدوا له أيها الناس، لا تسجدوا له."


من الواضح هنا كم هى الدعوة إلى قيمة الثبات على الحق وعدم الخوف بل يعود الكاتب لتأكيد رسالته عبر مقولة من التراث:
" ثم غرّت الناسَ لحى التيوس(كما قال محمد بن زكريا الرازي)وهم دائمًا أغبياء غوغاء ما اجتمعوا على شيء إلا وهو باطل، فساروا خلف الشيوخ والأولياء"

وبعد هذه القيم النبيلة فى المقاله المتمثلة فى الترغيب فى الفعل الإيجابى ورفض العدم والترغيب فى الثبات على الحق يقول الكاتب:
"وتحطمت كل مثل حزب إبليس العليا في حياته الأولى وعهده الأقدم، واختلط الزيف بالحقيقة، والشر بالخير، والقبح بالجمال، وهي نهاية التاريخ بالضبط كما توقعها إبليس، لا بقاء للعالم مع اختلاط القيم، لقد أصدر الشيطان حكم الإعدام على العالم " ثم يكمل " وبعثني أنا لأخنق الإنسان وأصفّي دمه بأهدإ الطرق وأكثرها تعقيمًا." ويا ليته يفعل ذلك بتحذيره لنا، يا له من مسيخ طيب جدًا !!

المركّب التراجيدي_العبثي

20.6.08


المركّب التراجيديّ_
العبثيّ
في
الحضارة الغربية


"إذا كان زماننا يسلّم دونما صعوبة بأن للقتل مبرراته، فذلك بسبب عدم الاكتراث بالحياة التي تتميز بالعدمية"
ألبير كامو:الإنسان المتمرّد:ص11



تقديمٌ :
تحاول هذه الدراسة المختصَرة التوغّلَ تحت القشرة الأدبية للحضارة الغربية إلى عمقها السيكولوجي والفكري، وذلك عن طريق تحليل موضوعات وآليات المسرح الكلاسيكي والمعاصر بالتركيز علَى ما سُمي هاهنا بالمركب التراجيدي العبثي، في كل من مسرح التراجيديا ومسرح العبث، وإبراز الطابع المزدوج لكل منهما، والإحالة المتبادلة بينهما، وتتبُّع العوامل التي أدت إلى ظهور هذا المركب على هيئة (ظاهرة) انبرت الأقلام في الغرب لمعالجتها، وتنافست على استقصائها وتوضيحها والتركيز عليها، بشكل لا يمكن أن يمرّ بلا تعليق .


وسيتضح في نهاية الدراسة أن هذا المركب الأدبي يمكن إحالته إلى مركب آخر فكري وعقائدي هو المركب الإلهي-الإنساني، الأمر الذي يمكن من خلاله فهم أساس الأزمة القيمية الغربية، وأزمة العالم الإسلامي الحضارية أيضًا، من أجل إكمال الدائرة النقدية .

ومحاولة فهم الظاهرة الحضارية عن طريق تحليل موضوعات التعبير وأشكاله تشبه ما قام به الغرب-على نطاق أصغر-من تحليل للأحلام(من حيث الموضوعات وأشكال التعبير)بغية فهم الشخص، وهو انعكاس/رد فعل منهجي وعلمي يمثّل لما استهدفه مشروع علم الاستغراب Occidentalism-وهو إحدى جبهات مشروع اليسار الإسلامي-من تحويل الغرب إلى موضوعٍ لدارسٍ/لدراسةٍ بدلًا من الاستمرار في اعتباره دارسًا/دراسةً لموضوع .

والهدف من هذه الدراسة-ومن علم الاستغراب عمومًا-هو فهم وتقييم التجربة الغربية باعتبارها تجربةً-من-التجارب الحضارية، وقياس مدى نجاحها، ووصف عناصر هذا النجاح إن وجدتْ .

وتنقسم الدراسة إلى خمسة أقسام رئيسية:
1- العنصر التراجيدي : وينقسم بدوره إلى : 1-1 : حبكة المسرح التراجيدي
1-2 : الطابع العبثي للحبكة التراجيدية
2- العنصر العبثي : وهو الذي ينقسم إلى:
1-2 : حبكة المسرح العبثي
2-2 : الطابع التراجيدي للحبكة العبثية

3- المنشأ العقائدي للمركب التراجيدي-العبثي : وفيه يتم بحث الأسباب التي أدت إلى ظهور المركّب الموضّح سالفًا في تاريخ الفكر الغربي .

4- العناصر المسرحية بين الإنساني والديكوريّ : وهو تحليل لوظيفة العناصر المسرحية الأساسية للكشف عن دورها الذي لعبته في المسرحين، وعن مؤدَّى هذا الدور، وعن مدى ومتجه التطور الداخل على الأدوات المسرحية من التراجيديا إلى العبث، ويتضمن:
1-4 : اللغة
2-4 : الحَدَث
3-4 : الشخص

5- خاتمة : الأزمة العقائدية الغربية في ضوء المركّب الإلهي_الإنساني.

1-العنصر التراجيدي:
1-1 : حبكة المسرح التراجيدي:
يعرّف أرسطو التراجيديا بأنها"محاكاةٌ لعمل جدي كامل ذي طول معيّن، بلغةٍ مشفوعةٍ بألوان من التزيين يرد كل منها على انفراد في أجزاء العمل نفسه، وبأسلوب درامي مسرحي لا قصصي، وتثير حوادثها الشفقة والخوف لتحقيق التطهير من حدة الانفعالات"
[1] (1)، وأهم ما في هذا التعريف عنصر التطهيرKatharsis، الذي يفترض كون البطل غير مستحق لما يحل به من شقاء، برغم أنه ليس خيرًا كل الخيرية كذلك، وهو ما يثير الإحساس بالخوف والشفقة، أما عن رؤية أفلاطون فقد اعتبرها فنٌا لا أخلاقيٌا إذ تضيّع اعتدال النفس[2] (2)، ورفضَ تضمنها لعنصر التطهير بالتالي، فالاعتدال فضيلة الفضائل عند أفلاطون، ذلك وإن كانت محاوراته أقرب إلى روح التراجيديا إذ تدور حول المثل العليا(وهي خاصية تعظيم البطل في التراجيديا)ولا تنتهي إلى حل واضح [3](3).

أما عن الطرح الحديث للفكرة حين النظر في رأي كل من شوبنهورSchopenhauer(1788-1860)، ونيتشهNietzsche(1844-1900)، فيشير إلى تطور واضح في المفهوم ومتجه المعالجة، فشوبنهور يرى أن التراجيديا قمة فن الشعر وذلك لأنها تقدم لنا صراع الإرادة مع نفسها، وتوقظ في الإنسان تلك المعرفة التي تذكره بأن الحياة ليست جديرة بأن يتمسك بها وأن السعادة فيها غير ممكنة، وهي تقدم ذلك المعنى من خلال صراع يرجع مصدره إلى الشر أو القدر الأعمى أو تصادم الإرادات
[4](4)، ويتضح هنا أن شوبنهور حين مجّد التراجيديا فعل ذلك لأنها تلخّص فلسفته في الحياة ومصير الإنسان، بمعنى من المعاني يمكن القول بأن الإنسان بالمعني العامّ للكلمة من منظوره هو بطل التراجيديا، وأن التراجيديا تُحيل إلى ما خارجها بشكل ما .

أما نيتشه فيرى على العكس من شوبنهور ضرورة إطلاق إرادة الحياة على هيئة إرادة القوة der willen zur macht، فالتراجيديا ككل الفنون في رأي نيتشه تعبر عن الصراع بين عنصري العقل والإرادة، أو بين الحلم والسُّكْر، بحيث يجسّد الفن في النهاية اللامحدد في إطار المحدد، الإرادة في إطار العقل، وحين يجسّد كذلك صراع الإرادة البشرية مع الطبيعة
[5](5)-وما وراء الطبيعة أيضًا-.

والواضح أن المفهوم اكتسب تعميمًا كبيرًا في الفكر الأوروبي الحديث(قبل الحربين)على مستويات أخرى غير الأدب، ورغم التعارض الظاهر بين شوبنهور ونيتشه في مسألة إرادة الحياة، إلا أن كليهما يمارس هذا التعميم على الحياة والمصير البشري، فإذا كان (الإنسان) ممثلًا تراجيديًا في رأي شوبنهور، فإن (الإنسان الأعلى) هو من يلعب دور البطولة التراجيدية في نظر نيتشه، فقط نظر شوبنهور إلى الإنسان من وضع رأسي يرى كل الرءوس سواءً، ونظر له نيتشه من وضع أفقي يرى تفاوت القامات والإرادات على الخشبة المسرحية ذاتها ووسط الديكور نفسه، وهو تعميم يرتبط بالعنصر العبثي الذي سيأتي عليه البحث، وعلى فحوى ذلك التعميم أيضًا، فيما يلي .

2-1 : الطابع العبثي للحبكة التراجيدية:
إن جوهر التراجيديا كاصطلاح هو ذلك التناقض الذي يلحظه المشاهد أو القارئ بين الخير والألم في شخصية البطل، فرغم أن البطل قد لا يكون مثاليًا من الناحية الأخلاقية إلا أن مأساته تقع لأسباب خارجة عن سيطرته، أو خارجة عن بشريته، ونظرًا لذلك التناقض يمكن للمشاهِد أن يستشعر الطابع العبثي للحبكة التراجيدية بسهولة، ذلك في ضوء تماهي القيم وتعارض المقاييس بين العالمين : الإلهي-الإنساني، وضياع معنى العدالة الموضوعية، بل إن أسطورة سيزيف ذاتها-والتي كتب عنها الفيلسوف العبثي الوجودي المعاصر ألبير كامو كتابًا شهيرًا عام 1942م-مثال من أمثلة التراجيديا، ويتضح من تحليل نموذجه أن المأساة في التراجيديا القديمة ارتبطت في الأغلب بصراع بين الإنسان والآلهة، فسيزيف أخ سلمونيوس-وهو فرعون اليونان-هو الذي خدع بلوتو إله العالم السفلي ليعود إلى الحياة، وادعى أنه يريد أن يقسم تركته بين أولاده فحسب ثم لم يعد، ويقال أن سبب غضب بلوتو عليه أنه حبس آلهة الموت، ويقال أنه أغضب زيوس حين دلَّ صديقه سوبوس على مكان ابنته إيجينا التي كان زيوس قد اختطفها
[6](6)، كما يتضح فيما سبق أيضًا الصراع بين الإنسان والموت، وهو صراع عبثي في حد ذاته، عامّةً يمكن التمثيل لذلك في إطار رصد ظاهرتين أدبيتين-فكريتين-دينيتين لدى الإغريق كالآتي:

1-2-1 : ظاهرة انعدام العدالة الإلهية:
نظرًا للدين الشركي(الهيراركي)والطبيعة البشرية لآلهة اليونان كان من المستحيل تصوّر الحساب العادل الأخلاقي، بل كان من المستحيل تصور ميزان موضوعي محدد للأخلاق في الحياة الدنيا، وقراءة محاورة أُطيفرون لأفلاطون مثلًا تتيح تأمل هذه الظاهرة فيما يشبه النقد الحضاري الذاتي(وسيلي حديث عنها)، وتحت هذا العنوان يكن إدراج ظاهرتين فرعيتين يتمثل فيهما ضياع معنى العدل الموضوعي : أولًا ظاهرة اللعن : كلعنة بلوتوس أو زيوس على سيزيف، ولعنة زيوس على بروميثيوس، ولعنة لابداكوس التي بدأتْ مأساة أوديب، ولعنة أتريوس التي بدأتْ الأورستيّا(أجاممنون-حاملات القرابين-آلهة الرحمة)
[7] (7)، وغالبًا ما تكون هذه اللعنات لأسباب تافهة من جهة، أو لأسباب ناتجة عن الأنانية في طباع الآلهة من جهةٍ أخرى، ثانيًا : ظاهرة النبوءة : فمعظم المآسي تحققُ نبوءة ما، مما يوحي بفكرة القضاء والقدر التقليدية، وانه لا مفر من المصير المرّ من ناحية، وأنه محدد سلفًا دون أن يخضع لقواعد من ناحية ثانية، نظرًا لاختلاف الأخلاق الإنسانية عن الإلهية باختلاف حدود الحق بين الحالتين .

2-2-1 : ظاهرة عبثية الموت :
نظر الفكر الغربي القديم للموت نظرة تشاؤمية لا خير فيها ولا نعيم ولا حساب عادلًا، بعض أدباء اليونان اهتمّوا مثلًا بموت الأطفال بشكل ملحوظ، كيوريبيدس في(إيفجينيا في أوليس) و(إيفجينيا في تاوريس)حين هدد أجاممنون بقتل إيفجينيا ابنة كليتمنسترا، وكذلك في (الطرواديات)حين توفي استيانالس ابن أندروماخي من هكطور وهو طفل
[8](8)، وغير ذلك، والسبب في شعور اليونان بتراجيدية الموت العالية هو شعورهم بأنه عقاب لا حساب، وأن الميت لا يستحقه في الأغلب .

والناظر إلى الإلياذة مثلًا يتبين ذلك الطابع التراجيدي العبثي في كل قصة من قصص أبطالها كل على حدة، فهكطور مثلًا أعظم أبطال الملحمة مجرد متورّط في الدراما لا أكثر، هو غير متضامن مع باريس أخيه أخلاقيًا، ويريد الدفاع فحسب عن مدينته، حتى يصطدم في النهاية بأخيل الذي هو-بشكل ما-شبه إله، وأخيل نفسه يريد الدفاع عن شرف مدينته وملِكه، فيلقى الموت على يد أتفه أبطال الملحمة-باريس-بمعاونة أبوللو .

ذلك الطابع العبثي لم يقتصر على روح التراجيديا قديمًا، بل إن أهم الفلاسفة التراجيديين(شوبنهور ونيتشه)ربطوا بين فكرة عبثية الحياة ولا غرضيتها المطلقة من جهة، وموقف الإنسان التراجيدي من جهةٍ أخرى، ذلك إن لم يكونا قد استخرجا ذلك الموقف من تلك الفكرة أساسًا .

فشوبنهور في (العالم إرادةً وتمثلًا) يعرض نظريته في إرادة الحياة، ولا يجب أن يُفهَم هذا التركيب ليعني أنْ نحيا أو أن تحيا، بل المقصود أن للحياة ذاتها إرادة تتجلى في طبيعية وحتمية غريزة التكاثر في جميع الكائنات الحية حتى البشر، وما يرتبط بهذه الغريزة الأصلية من حب وفن وجمال، ومن البدهي أن النظر إلى الحياة البشرية من هذا المنظور يضعها في سياق الحتمية Determinism التي تتنافى مع الغائية Purposiveness، ويجرّد الحياة من كل غرض إنساني إرادي ويجعلها مسرحية عبثية حقيقية، فليس للحياة الإنسانية هدف إلا تحقيق هدف ذلك السياق الكلي الشامل اللامتناهي غير العاقل: الحياة، وما نحسبه أهدافًا لنا هو في الحقيقة نتيجة لها سبب حتمي طبيعي بيولوجي، يقول شوبنهور مثلًا عن الحب: إن رعشة أيدي المحبين هي ارتعاشة الجنين القادم في الرحم بعد هذا الحب
[9](9)، وهكذا يصل شوبنهور-انطلاقًا من العبث-إلى التراجيديا، فموقفه كفيلسوف، وموقف كل من يرى ما رأى، يعبّر عن مأساة اكتشاف الخدعة، واكتشاف تفاهة السعي البشري والمثل البشرية، وذلك دون جناية معروفة .

أمّا نيتشه فأمره أكثر تعقيدًا وإنْ كان سيصل إلى النتيجة نفسها، نظرًا لتعدد المداخل إلى فلسفته غير النسقية، ومنها المدخل الوضعي Positivisticالذي قدمه كامو في(الإنسان المتمرد)
[10](10)، وطبقًا لصورة (نيتشه-كامو) فالفيلسوف الألماني الثائر على قيم عصره لم يفعل أكثر من اكتشاف مغالطة منطقية وعلمية في صورة الأمر الأخلاقي(يجب عليك أنْ تفعل كذا)، هذه الصورة القياسية فاسدة لسببين:أولًا(منطقيًا) أنّ ذلك القول الإنشائي يفترض قولًا خبريًا هو(ما يجب أن يكون هو كذا)، و(ما يجب أن يكون) ليس كائنًا من كائنات العالم لذلك لا يمكن الربط المنطقي بين الموضوع والمحمول(المبتدإ والخبر في النحو)في الجملة، أي أنّ أداة الربط-فعل الكينونة في اللغات الغربية وضمير هو في هذه الصياغة-لا معنى لها هنا، وانطلاقًا من هذه النقطة يستبعد نيتشه هذا الموقف القيمي الذي يقوم على افتراض (ما يجب أن يكون) بوصفه خيرًا دون تقديم مبرر، "الخير هو الذي يحتاج إلى تبرير"[11] (11)، ويمكن تبسيط ذلك بأنه من غير المشروع في رأي نيتشه أن يُقال لك(لا تشرب الخمر) مثلًا، لأنك ستسأل:لماذا لا ؟، وسيُجاب السؤال عدةَ أنواع ومذاهب من الإجابات، يرفضها نيتشه جميعًا : منفعة المجتمع-الاتساق مع الوضع الطبيعي للحياة والعالم-الأمر الإلهي..، وستسأل أيضًا لماذا بالنسبة لكل إجابة، فلماذا عليك أن تنفع المجتمع مثلًا ؟ لماذا لا تنفع ذاتك فقط ؟ وقد تُجاب بأنك لو لم تنفع الآخرين فلن ينفعوك، وبالتالي تقل محصلة المنفعة بالنسبة لذاتك، ولكنك ستسأل: وماذا لو كنت أنا الأقوى ؟ عندئذٍ تصل على الأفق النيتشوي الشهير(الشهير كالأفق):الإنسان الأعلى Übermensch، ولن تحتاج بعد إلى نظريات القيمة وفلسفة الأخلاق، وسيكون هناك قانون واحد فحسب:كن أقوى، فإن لم تكن فلا تعطل الأقوياء من فضلك .

كان ذلك بصدد المغالطة الأولى المنطقية، أما المغالطة الثانية العلمية فأمرها أسهل، هي عدم وجود دليل علمي تجريبي في رأي نيتشه على وجود الإله، فينتفي في نظره الآمِر الخلقي من حيث الوجود، وبالتالي من حيث الفاعلية(مقولة موت الإله)
[12](12)، ويرى دولوز في بحثه عن نيتشه أن الأخير حين صرح بهذه المقولة كان يعارض التراث المسيحي أساسًا، ففي جدة العهد بعد الصلب يحدث الارتكاس Atavism، أي العودة إلى الأصل الخيّر الذي ظهر مرة واحدة في الماضي الزماني(تاريخ حياة المسيح في الأناجيل)، والماضي القيمي(الضمير الخلقي للمسيحيين)، وبكوْن الخير نموذجًا في الماضي تصير الحياة الخلقية للعالم المسيحي هي ذلك الارتكاس للماضي، بينما كان نيتشه ينظر إلى مركّب التفوق Superiority في المستقبل[13](13)، "إننا نرى إلى أين يريد نيتشه الوصول، كان المسيح نقيض ما صنع منه القديس بولس، كان المسيح الحقيقي على غرار بوذا، بوذا على أرضٍ غير هندية، كان متقدمًا جدًا بالنسبة لعصره، وفي بيئته كان يعلّم الحياةَ الارتكاسية كيف تموت بهدوء وتنطفئ بسلبية،...ما كان المسيح يهوديًا ولا نصرانيًا بل كان بوذيًا، أقرب إلى الدلاي لاما من البابا "[14] (14)، ويركّز دولوز على أن المعنى الجوهري لمقولة موت الإله ليس الإلحاد بل الانتقال من المستوى المجرد إلى المستوى الدرامي[15] (15)، هذا هو الجديد، أي أن التصور الإلهي (كان) موجودًا في نفوس البشر ثم انتهى بحلول عصر الثورة العلمانية وخروج الدولة من فناء الكنيسة، وكأن الأوروبيين يقتلون المسيح مرة ثانية[16](16) على مستوى أشمل وغير دافع للأسطرة (صناعة الأساطير) على الإطلاق، وكأن نيتشه هو الذي يسجل الإنجيل في المرحلة الحديثة والمعاصرة، ولكنه إنجيل الإنسان الواحد الكلّي اللامتناهي .

هناك عدة مداخل أخرى لفلسفة نيتشه كالمدخل البراجماتي والوجودي
[17](17)، ولكنها جميعًا تصل إلى منطقة العدم الخلقي ذاتها، إن لم يكن قانون، فكن أنت القانون، وإن لم يكن القانون(الله)موجودًا فكل شيء مباح(إيفان كارامازوف) .

هذه الحالة من العدمية الحديثة هي ما يناظر حالة تضارب القوانين والإرادات الإلهية لدى الإغريق قديمًا، هي منطقة تساوت فيها نتائج نفي وجود الإله مع نتائج تعدد الآلهة، كلاهما أدى إلى هذا الموقف العبثي الذي لا ثمن فيه للألم، في الوعي الأوروبي الحديث يقوم إلحاد إيفان كارامازوف وستاندال ونيتشه(في تفسيره الوجودي)على أساس أن الحقيقة لا تستحق كل هذا الألم البشري"إذا كانت آلام الأطفال أمرًا لا غنى عنه لإكمال مقدار الألم الذي سيكون فديةً للحقيقة فإنني أعلن جازمًا أن الحقيقة لا تستحق أن يُدفع ثمنها باهظًا إلى هذا الحد...إنني لا أريد الانسجام بل أرفضه حبًا في الإنسانية"
[18](18)، ولا يقوم على النفي الأصلي لوجود الإله من الناحية الفيزيقية، هو إذًا موقف قيمي يحاول أنْ يرد للبشر براءتهم الأصلية، ويحررهم من الخطيئة بالفلسفة لا بالدين، وبالإلحاد لا بالإيمان، "إنني لا أُجحد الربّ يا أليوشا، وإنما أقتصر على أنْ أُعيد له بطاقتي بكثير من الاحترام"[19](19)، ونتائج هذا الموقف من حيث النجاح والفشل هي موضع السؤال فيما يلي من أجزاء الدراسة، ولكن الألم العبثي الذي لا استحقاق له، والذي يدينه المفكر هنا إلى درجة الإلحاد هو أساس تراجيديا الجنس البشري، وتمجيد الألم عند دمتري كارامازوف وراسكولنيكوف وزرادشت هو ما يُناظر تمجيد الألم قديمًا في الأبطال التراجيديين، "كان راسكولنيكوف ما يزال يجهل أن هذه الحياة الجديدة لن تُوهب له من غير تضحية، وأن عليه أن يدفع ثمنها غاليًا ...، ولكن هنا تبدأ قصة أخرى، قصة إنسان تجدد شيئًا بعد شيء، قصة انبعاثه"[20](20)،"ما معنى الألم؟ إن معنى الوجود يتوقف عليه بكامله، إن للوجود معنى بقدر ما للألم من معنى في الوجود"[21] (21)، وهو موقف تراجيدي يتأسس على الموقف العبثي سالف الذكر بجميع أعمدته وجدرانه .

2-العنصر العبثي:
1-2 : حبكة مسرح العبث:
(التعبير عن لا معقولية الحياة، ولا معناها، ولا جدواها، ولا غائيتها عن طريق الطرح المباشر للنموذج المختار، واتخاذ طريق من اللامسرحة سبيلًا إلى التعبير عن اللامعنى في حياة الإنسان المعاصر).

ربما يمكن الوقوف على هذا التعريف لموضوعة المسرح العبثي على مستوى البنية، دون التطرّق إلى نشأته التاريخية، فأمّا(الطرح المباشر للنموذج)فبيانه أنه من الممكن دائمًا كتابة مسرحية(تتحدث عن)عبثية الحياة بدون أن تكون عبثية بالضرورة كمسرحية، فهي تواجه الجمهور بـ(معنى) العبث، ولا تترك له استنتاج هذا المعنى من اللامعنى الذي يراه على خشبة المسرح العبثي حين يتم طرح النموذج المختار طرحًا مباشرًا مفاجئًا دون تعليق، وأما(اتخاذ طريق من اللامسرحة سبيلًا إلى التعبير عن اللامعنى)فذلك أن مسرح العبث يمثل صدمة وانقلابًا يتعمّدهما إن لم يكن يتعمد ثورة على المسرح الكلاسيكي(وسترد مقارنة بينهما من بعض الزوايا)من حيث اللغة والصراع والشخص، وهذه الضد-مسرحية متعمّدة للتعبير عن الضد-معقولية في الحياة المعاصرة الواقعية، يمكن القول مؤقتًا أن الفرق بين المسرحين الكلاسيكي والعبثي في هذه النقطة كالفرق بين مسرحيتين على الترتيب : إحداهما تُمثّل بالشكل المعروف الذي يجلس فيه الجمهور قبالة الممثلين على الخشبة، والأخرى تُمثل حين يجلس الجمهور فلا يرى الخشبة بالمعنى التقليدي، بل نافذة أو مرآة .

2-2: الطابع التراجيدي للحبكة العبثية:
طبقًا لتعريف التراجيديا السابق فإن الصراع العبثي يتميّز بمذاق تراجيدي لاذع، وإن كان يبدو فحسب في أحد نوعي العبث دون الآخَر، فالعبث:ميتافيزيقي(ما ورائي)، ومجتمعي، الأول فكرة تقول أن وضع الإنسان كإنسان عبثي من الأصل، والثاني فكرة تقول بأن وضع إنسان بعينه في مجتمع متعيّن بحدود درامية أي:زمانية ومكانية وموضوعية هو العبثي نتيجة لفشل ما في الجهاز السوسيولوجي أو السيكولوجي غالبًا
[22] (22)، ومن ثم فالنوع الأصلي الميتافيزيقي من العبث هو الذي تنطبق عليه الملامح التراجيدية دون اشتباه، نظرًا لكونه ألمًا بلا مبرر أو استحقاق، صحيحٌ أنّ بطل المسرح العبثي ليس على قدر أهمية ومركزية و(بطولة)البطل التراجيدي الكلاسيكي، أحيانًا يبدو تافهًا، وستلي هذه النقطة حين المقارنة بين المسرحين، غير أن البطل العبثي ليس مذنبًا إلى هذا الحدّ، إلى حد السقوط المصيري إلى الضياع واللاتناهي-أو التناهي وكلاهما أسوأ-، ومن الهامّ ملاحظة أن البنية التحتية الفكرية المنتجة لهذا النوع من الأدب في الغرب كانت تنكر فكرة الخطيئة الأصلية Peccatum Originale جملةً وتفصيلًا، إمّا لاعتناقها أطروحة الوجودية الأولى القائلة بأسبقية الوجود على الماهية(أي:أن وجود الإنسان النفسي والاجتماعي والمادي يسبق التحديد الضروري لصفاته زمنيًا)، أو برفض الأطروحة المسيحية التقليدية القائلة بعكس ذلك، على أية حال كانت النتيجة واحدة .

إن الحبكة العبثية العنيفة في(الغريب)لكامو تُظهر ذلك الطابع، فالبطل يُعدم في النهاية لارتكابه جريمة القتل المتعمد، ولكن من الهام هنا توضيح دور الصدفة (بالنسبة لهذا البحث ولكامو أيضًا) فالبطل أطلق الرصاص تحت تأثير أشعة الشمس التي ضربت عينيه مباشرةً فأردى المجني عليه صريعًا، وعندما صرّح بهذا السبب حين طُلب منه الدفاع عن نفسه في المحكمة ضحك الجمهور في سخرية، يريد كامو القول بأن حال الإنسان عمومًا كحال هذا الرجل خلف القضبان لأي سبب إلا الخطيئة، سواء كانت مكتسبة (وهو ما تنفيه دراما كامو)، أو أصلية(وهو ما تنفيه فلسفته الوجودية) .

أما بالنسبة للفكر الغربي القديم فالناظر واجدٌ إياّه موضِّحًا ومؤصِّلًا لهذا الطابع، بل تتضح فيه العوامل المؤدية لذلك أيضًا .

فسقراط الأفلاطوني في محاورة أُطيفرون يحاجّ أُطيفرون بأن تعدد الآلهة لا يسمح بمفهوم موضوعي واحد عن التقوى، وهي التي يريد أطيفرون الشهادة ضد والده في المحكمة في سبيلها
[23](23)، فالاستشهاد ذاته عبث لا معنى له، برغم أنه قمة ما يمكن تقديمه من تضحية أخلاقية، فتعدد الآلهة ظاهرة مرصودة من حيث نتائجها القيمية:الأخلاقية والسياسية والحقوقية في الفكر الغربي القديم .

أما أرسطو فلم يكن مؤمنًا بالتعدد كأطيفرون(وليس كسقراط أو أفلاطون الذين كانا موحِّدين Monotheists غالبًا)، ولم يكن منكرًا لوجود الإله(المحرّك الأول الذي لا يتحرك)، بل كان مؤمنًا ومبرهِنًا على وجوده بدليل الحركة Kinesis، وهو من أقوى الأدلة على وجود الإله إن لم يكن أقواها على الإطلاق، لكنه كان منكرًا للعناية الإلهيةProvidence، وهي اكتراث الإله بأفعال المخلوقات وصلواتهم ودعائهم
[24](24)، وهو ما يمكن التعبير عنه بالتصور الإلهي المحفوظ في(تِرْمُس)معزولًا عن العالم في وحدة لا متناهية، عقلًا وعاقلًا ومعقولًا، ومن هنا تمركزت نظريته الأخلاقية حول مفهوم السعادة[25](25)، والغريب أن عددًا من فلاسفة الإسلام قد تبعه في تأسيس الأخلاق على هذا المفهوم .

ومن الاتساق المنطقي ملاحظة أن هذه النظرية يمكن لها أن تتحوّل بسهولة حديثًا إلى تأليه الإنسان عند نيتشه، ما دام المعيار هو كل ما يجعلك أسعد/أقوى، مثلما أدتْ أَنْسَنَة الآلهة Humanization of Gods عند أطيفرون قديمًا(تعددها وطبيعتها البشرية)إلى عبثية موقف التضحية .

وإذًا يمكن رسم ذلك الخط التجريدي الممتد من أرسطو إلى نيتشه مرورًا بشوبنهور طبقًا لمركزية فكرة لا غرضية الإله أو لا وجوده، فكلاهما يؤدي إلى النتيجة نفسها، وهي أن العالم آلة عمياء لا يكترث لها الإله(أرسطو)، وهو ما قد يؤدي إلى خروج الإله من الآلة Deus Ex Machina(نيتشه)، وما يؤدي إلى التصور العبثي للحياة والعواطف والفنون والمساعي البشرية بعامّة(شوبنهور) .

الأهم من ذلك أنه بالإمكان أيضًا رسم خط مباشر بين المركّب التراجيدي-العبثي من جهة، والمركّب الإلهي-الإنساني من جهة أخرى بناء على ما سبق .

إذًا فالظواهر العبثية في الفكر الأوروبي قديمة وحديثه متأصّلة في أساس عقائدي يتعلق بالشرك أو بالإلحاد النسبي أو المطلق من جهة الإلهي، ويتعلق بانعدام مسؤولية الإنسان عن هذه الفوضَى والعماء من جهة الإنساني، وينتج من هذا الموقفًُ التراجيدي، الذي تمثل قديمًا في التراجيديات الغربية مرتبطًا بالعبث، وحديثًا في مسرح العبث المعاصر مرتبطًا بطابعه التراجيدي، وهو ما يدفع إلى مناقشة المنشإ العقائدي للمركب التراجيدي-العبثي مباشرةً، فيما يلي .

3- المنشأ العقائدي للمركب التراجيدي-العبثي:
تنقسم العوامل العقائدية والاجتماعية والمعرفية المؤدية إلى تكوين هذا المركب إلى عوامل أدت إلى تكونه قديمًا(عصر الفلسفة اليونانية قديمًا)، وعوامل أدت إلى ظهوره حديثًا(عصر الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة)، ويبدو أن هذه الأسباب اختلفت بين المرحلتين لاختلاف هام جدًا في البنية المعرفية بينهما، ألا وهو ازدهار منهج العلم الطبيعي الحديث، وربما كان هناك تشابه ما في العوامل السياسية والاجتماعية غير أن التركيز غالبًا سيكون على المرحلة المعاصرة(1900-2000م) عند الحديث عن هذا النوع من العوامل لقربها التاريخي النسبي واستمرار تأثيرها المباشر إلى المرحلة الحاضرة(الفلسفة الجارية Current) .

ورغم التعرض فيما يلي لعدة أنواع من العوامل إلا أنها جميعًا مُجْمَلَة تحت عنوان المنشإ العقائدي نظرًا لأن (الشعور) الذي اختبر هذا المركب موضوع الدراسة ناتج عن أزمة عقائدية، هذه الأزمة بدورها هي الناتجة عن هذه العوامل المتعددة .

فالبنسبة لمرحلة الفكر القديم الذي أنتج التراجيديات الكبرى يمكن وصف عدة ظواهر عقائدية كانت أسبابًا لهذا الطابع العبثي للتراجيديا، وهو الطابع المسئول عن كونها تراجيديا بالمعنى الاصطلاحي كما سلف، أهمها تعدد الآلهة في الدين التراتبيHierarchical religion، كما وضح في محاروة أفلاطون السابقة، فأفلاطون ينكر موضوعية القيم الأخلاقية والدينية اعتمادًا على صراع الآلهة، كذلك التشكُّل الإنساني للآلهة Anthropomorphosis of Gods في الأديان القديمة، والتي صوّرتْ الآلهة في صورة السوبرمان لا أكثر، غير أنها لا تموت، مما صوّر الكون كله حول وعي الإغريقي القديم على هيئة عاصفة مخيفة، لا ثبات فيها لقانون، ولا أمل فيها في عدالة، أمّا الظاهرة الثالثة فهي انعدام العناية الإلهية لدى بعض المفكرين، وأهمهم أرسطو، فالتصور الإلهي بالنسبة إليه عزلة معرفية وأخلاقية وفيزيقية وميتافيزيقية بعيدًا عن العالم، مما قطع آخر أمل في موضوعية القانون، وفي وجود عهد بين الآلهة والبشر يحفظ حقوقهم، وهو ما أهدر حقوق البشر قبل أن يولدوا، وقبل أن يوجدوا، في التصور الغربي القديم .

أما بالنسبة لعودة العبث للظهور في الفترة الحديثة المعاصرة فيمكن تقسيمها إلى أسباب فيزيقية، وأسباب ميتافيزيقية، وقد تم التركيز على الأسباب الميتافيزيقية وحدها عند الحديث عن الفترة القديمة، أما بعد نشأة المنهج، واعتماده، وتحقيقه للنجاح الغربي المعرفي الباهر فقد صار مؤثِّرًا قاهرًا على جميع النواحي العقدية الغربية، ويمكن إجمال القول في ذلك وتفصيله :

فأما إجماله فهو أنَّ (تعوُّد) الإنسان الغربي على التفكير بمنطق سببي يرد كل الظواهر إلى أسباب سابقة الحدوث في الزمان، أو سابقة الموضع في المكان أثّر على سيكولوجيته، فصار أقل ميلًا إلى الاعتقاد في وجود إله، وإنْ اعتقد فيه صار أقل اعتقادًا في عنايته به، وإن صار أكثر اعتقادًا في عنايته به صار هو أقل اعتقادًا في عنايته هو به، كمفهوم وحق ومصدر للقيمة، وهي ظاهرة رصدها المفكّر الإنجليزي سير ولتر ستيس W. T. Stace (1886-1967) الذي حجبته الصهيونية عن الاهتمام العالمي الذي يستحقّه، عامةً أرجع ستيس هذه الظاهرة إلى تلك العوامل السيكولوجية، ولاحظَ أن الاعتقاد في وجود الإله وغائية العالم لا يتعارض مع الاعتقاد في السببية، أي أن الفصل بين الطرفين كان سيكولوجيًا لا منطقيًا
[26](26)، وهو ما يُسمّى بالتصور الملتئم عن الكون، أي: التصور الطبيعي الذي لا يدع مجالًًا لثغرة يتسلل مفهوم وجود الإله وفاعليته في الطبيعة منها، نظرًا للاكتفاء الذاتي الذي لقوانين الطبيعة الحتمية من جهة، والقصور الذاتي الذي للمادة من جهة ثانية، والاكتفاء بهذه المعادلة : القانون+المادة=كل شيء، من جهة ثالثة .

وأما تفصيله : فهو عدد من الاكتشافات العلمية بغض النظر عن مدى صحتها، التعامل هنا مع صفتها العلمية، والتي أثرت على النظرة الكلية للطبيعة من المنظور الغربي الحديث والمعاصر، هذه الاكتشافات لم تكن اكتشافات تجريبية محدودة، وإنما غيّرت نموذج العلم الحديث كلية في عدة مجالات .

أهمها بالطبع_وربما أسبقها_نظرية كوبرنيقوس عن مركزية الشمس، ولا مركزية الإنسان، فشعر الإنسان الغربي الحديث بصدمة هائلة أدت إلى اعتقال وتعذيب وإعدام المئات، وهي لم تكن أزمة دينية بقدر ما كانت أزمة نفسية، أي أن الاصطدام بهذه النظرية لم يكن لتعارضها مع التصور الديني المقدس الإلهي، بل لتعارضها مع التصور السيكولوجي الذاتي الإنساني، إننا حين نقلل من مركزية الإنسان الطبيعية نقلل منها سيكولوجيًا وعقديًا، وبالتالي يفقد المجتمع الغربي استقراره القيمي الذي كان يتناسب طرديًا مع استقرار موقع الإنسان الطبيعي الذي كرّمه الله به في مركز الكون، فعاد الشعور بالعبثية تدريجيًا بعد بيات قروسطي طويل .

لم يكد يندمل هذا الجرح حتى قدّم تشارلز دارون نظريته عن أصل الأنواع(1859م)، وتسلسل الإنسان(1871م) وبدأ الإنسان الغربي يعرف أنه لم يهبط من جنة عدن، بل من مؤخرة قرد، وصار الإنسان ينظر لذاته كامتداد للحيوان، وبرغم أن دارون اعترف برقي الإنسان عن سائر الحيوان بالوعي الأخلاقي(1871م)
[27] (27)، فإنه من الممكن فهم كيف أن معرضة نظريته جاءت على هذا القدر من الاشمئزاز الديني والخلقي[28](28)، لكنها اكتسبتْ أنصارًا متزايدين مع حماسة المجتمع الغربي للعلم الطبيعي كأيديولوجيا، وليس فقط كمنهج أو نظرية أو تقانة، أهمهم كان كارل ماركس(1818-1883م)شخصيًا الذي أهدَى كتابه الأشهر رأس المال إلى دارون، ومن المعلوم أن دارون رفض إهداء ماركس بسبب إلحاد الأخير، غير أن الهامّ هنا ملاحظة التغير العقائدي الذي طرأ على العقلية الغربية الحديثة من أثر انتشار نظرية تشارك في القضاء على قداسة الإنسان، إن كوبرنيقوس قضى بشكل ما على قداسة الإنسان السماوية، وحفظ له قداسته في نفسه كمخلوق سامٍ مملكته ليست من هذا العالم، لكن دارون قضى حتى على قداسة الإنسان في نفسه وأدرجه ضمن شعب المملكة الحيوانية .

صاحبتْ الموجة التطوّرية Evolutionism موجةٌ أخرى من النقد الأخلاقي المباشر، وخطورتها في مباشرتها، فالنتائج الأخلاقية التي ترتبت على النظريتين السابقتين جاءت غير مباشرة، أما موجة النقد الأخلاقي بقيادة فريدريك نيتشه(1844-1900م)فجاءت ضربة في الصميم، يرى نيتشه على الإجمال أن القيم الأخلاقية التقليدية خطاب زائف يجب أن يُنظر له على ضوء تفسيرية الارتياب Hermeneutics of Suspension (بتعبير بول ريكور)، فهو يخفي أسفله لاشيء إلا صراع القوَى الرهيب، الخير هو مصلحة الأقوَى، برغم أننا نظنه الأفضل أو الأشرف أو المشروع دينيًا، وهو من جهة أخرى مصلحة الأضعف الذي حاول أن يستقوى وفشل، فصار يحارب الأقوى بالقيم والوعظ الإرشادي القائم على أساس أن الفقراء والمساكين يدخلون الجنة، ومن الهامّ في هذه النقطة أن يتضح أن الطرف المناقض لنيتشه والمعاصر له(ماركس)قدم النقد نفسه للأخلاق السائدة بشكل مختلف، بدلًا من صراع القوى يجد ماركس في الصراع الطبقي مصدرًا للصراع الفوق-بنيوي Super-structural، أي على مستوى القيم والمذاهب والعقائد والفنون...إلخ .

ثم قدم فرويد نظريته عن اللاوعي، وكيف أنه البنية التحتية للنفس البشرية، والنتائج القيمية السلبية المترتبة على هذه النظرية مرصودة من المنظور الغربي قبل سواه، المهم أنها جاءت لتأتي تقريبًا على ما تم استنقاذه من أيدي نيتشه وماركس الناعمة نعومة إكلينيكية معقَّمة .

أما الضربة الكبرى التي غيّرت وجه العلم حقًا ويعرفها كل المتخصصين في فلسفة العلوم ومناهج البحث فهي نظرية الكوانتم Quantum- 1900، والنسبية العامة( GTR -(1915 وكل منهما على وجه الإجمال قضت على الثبات واليقين المعرفي الذي ساد الحقبة العلمية السابقة، كان العلم الحديث جاء باليقين العلمي ليزلزل البنية القيمية ثم رحل بعد زلزالها، ففقد المجتمع الغربي الموضوعية القيمية واليقين العلمي كليهما .

وبعد تفصيل الجانب الفيزيقي-العلمي يمكن فهم الجوانب الميتافيزيقية، والتي تتلخص في الشك في وجود الإله أو عنايته، والذي وصل إلى الإلحاد المطلق أحيانًا وزلزلة موضوعية القيم، وهو شك وإنكار قائم على الأسباب الموضحة أعلاه أساسًا .

غير أن القيم قد تقوم على الإلزام العقلي الصارم(كانط)، أو على المنفعة الاجتماعية أو الطبقية العامة(جيرمي بنتام، وجون ستيوارت مِل، والماركسيين بشكل ما)، أو على الرغبة في تحقيق الذات والتفوّق(نيتشه والوجوديين)، أو على خبرة ذاتية لا دينية(ستيس)، وقد تكون هذه المذاهب هي الملاذ الأخير للأخلاق بعد سقوط سقف العقيدة، ولكن السقف الإنساني أيضًا-والذي كان يمكن له أن يحتوي القيم بشكل علماني لا ديني في الغرب-هوى بأسرع مما هوى السقف الديني القديم، وذلك لعوامل سياسية واجتماعية، ففشل المشروع التنويري الغربي الذي بدأ في القرن 18، وتحوله إلى مشروع استشراقي-استعماري في القرن19 صار واقعًا، كما أن المشروع الليبرالي(بنتام ومل)بات لا يخدم سوى المصالح السياسية المحدودة بحدود مجتمعه على حساب المجتمعات الأخرى، وكذلك المشروع الاشتراكي الذي تمخض عن آلة اجتماعية سياسية إرهابية عملاقة في ظل السياسة الداخلية الشمولية التي أنتجت طبقية من نوع جديد سياسي لا اقتصادي، ثم جاءت قيم التفوق وتحقيق الذات الوجودية لتخلق وحشًا مثل هتلر والنازية، يحاربه وحش آميركي يهودي نووي يقتل الأطفال بالقنبلة الذرية، فانتهى المشروع الأخلاقي الثالث، أما المشروع الرابع الصوفي اللاديني(ستيس)فقد نجح جزئيًا على مستوى الفرد كمشروع للرهبنة والفرار الرأسي، مفتقدًا أية آلية للعمل الاجتماعي، فانحصرت القيم الغربية في نهاية النهاية في هذا المشروع الضيق جدًا، وهؤلاء الأفراد المتناثرين القليلين جدًا جدًا، وقد ارتبط كل هذا كما هو معلوم بواقع الغرب إبان النصف الأول من القرن المنصرم متضمنًا الحربين العالميتين ونتائجهما الاجتماعية والنفسية والمعرفية والسياسية .

لكل هذا جاء أدب العبث التعبير الأصدق والنقد الأوقع لحال مجتمعه حين أكّد على فراغ العالم حول الإنسان الفرد، وتلاشِي الديكور الذي يتضح أنه مجرد ديكور، كما في (مسرحية هذا الحان العجيب) ليونسكو، وذلك يتضح عند الحديث عن عناصر المسرح الأساسية في المسرحَين، حين يظهر استفحال تأثير هذه العوامل السابقة على تلك العناصر كلما (تقدمَ) المجتمع الغربي، كما يلي .

4-العناصر المسرحية بين الإنسانيّ والديكوريّ :
نتيجة لشعور الإنسان الغربي بتضاؤل العنصر الإنساني أمام الطبيعة، أو الآلة الاجتماعية، أو التشكُّل الإلهي لبعض البشر Theomorphosis، تعاظم شأن الديكور على حساب الوجود الإنساني، وصار المعنَى، والحدَث، والشخص نفسه مجرد ديكور يمكن الاستغناء عنه، وذلك يظهر في مقارنة تالية بين المسرح التراجيدي الكلاسيكي والعبثي من هذه الزوايا :

1-4 : اللغة:
كانت اللغة عنصرًا هامًا جدًا بلا شك في تنظير أرسطو العمدة للتراجيديا، وهي من العناصر الستة للتراجيديا في كتاب الشعر الأرسطي، ولكنها اقتصرت على لعب دور وسيلة التوصيل المنمّقة المنظومة "لغة مشفوعة بألوان من التزيين" .

أما في المسرح العبثي فقد تعاظم شأن اللغة كثيرًا على حساب الحدَث، مرتبطًا في ذلك بارتفاع شأن اللفظ على المعنى، فصارت اللغة هي خشبة المسرح، إن تضاؤل المعنى ودور المعنى في الصياغة المسرحية يُكسب اللغة أهمية ومركزية غير مسبوقة بين كل عناصر البناء، مسرحية (تدريبات في اللغة الفرنسية في الإلقاء والمحادثة للطلاب الأمريكان) ليونسكو مثلًا ليس فيها غير محادثات(ديالوجات)فقط دون محتوَى، أي أن الحوار المسرحي صار هو المسرحية ذاتها .

والأساس في هذه النقطة أن الظاهرة العبثية المتعاظمة حديثًا طالت اللغة ففرغتها من المعنى في الواقع الاجتماعي المعيش، فصار اللفظ هو الأبرز والأظهر والأهم، مما يُلقي الضوء على نظرة مثقفي الغرب-أو بعضهم على الأقل-إلى الخطاب السياسي والديني بوجهٍ خاصّ .

2-4 : الحدث:
قلَّ شأن الحدث بالمعنى التقليدي لحساب اللغة كما تقدم، وربما تلاشَى الحدث كليةً كما في مثال يونسكو السابق(تدريبات..)، ولكن يمكن القول أن الفارق لم يكن كميًا فقط في الحدث على مستوَى المسرحين، بل صار كيفيًا أيضًا، فالحدث لم يعد يتضمن التمهيد للشعور بالتعاطف مع البطل والشفقة عليه والخوف من أن نكون هو كما نص تنظير أرسطو، بل صار يمهد للثورة على البطل وضدّه لأننا هو فعلًا، أي أن الحدث صار خارجيًا وسقط الحائط الرابع، وصار المسرح أكثر واقعية وتكثيفًا وشمولًا في نظرته إلى الخارج المجتمعي والإنساني .

3-4 : الشخص:
يصير البطل أكثر تسطيحًا وتفاهةً، ربما يصير نكرة، إن التبديل في تسمية البطلين(جان-ماري) و(ماري-جان) في (تدريبات..) لا يعكس سوى هذا، صار الشخص ككل شخص، الشخص كذلك يظهر بلا فعل أو انفعال في (هذا الحان العجيب)لأن الانفعال أساس الفعل، في حين تُسحب الديكورات من حوله تدريجيًا، الشخص صار مجرد ضمير في اللغة مثل)هو) و(هي) في (تخريف ثنائي)ليونسكو، وهو شخص تجده عرَضًا في أي بيت: (الزوج) و(الزوجة) في(الكراسي)ليونسكو أيضًا، بينما ينداح من حوله الفراغ المظلم الهائل باستمرار، فراغ خشبة المسرح في (هذا الحان العجيب)، وفراغ الألفاظ في (تدريبات)، وفراغ العقول في (تخريف)، وفراغ الكراسي في (الكراسي) .

الشخص كذلك لم يعد أسطوريًا لأن الإنسان لم يعد أسطورة، صار شخصًا عاديًا يرتدي القميص والبنطال ويعاني البطالة ويدخل الحمّام، ولم يعد مصير البشرية متوقفًا على قدرة أمعائه على الاحتفاظ بالضغط الأُسموزي لكي لا يُصاب بالإمساك، وربما حتى الإله لا يهتم به(مفهوم الهَجْر السارتري l’abandon)، وربما كان حظ البطل التراجيدي الملعون أفضل، على الأقل تكشف ظاهرة اللعن عن اهتمام ما، طبعًا الواضح الآن أن العكس هو الصحيح، البطل العبثي-المواطن الغربي-هو الذي صار لا يهتمّ بالإله ولا بالإنسان وليس العكس .

5- خاتمة : الأزمة العقائدية الغربية في ضوء المركّب الإلهي_الإنساني:

لم تكن العصور الوسطى فترة ازدهار حضاري كما يعلم الغربيون قبل غيرهم، صحيح أنها المرحلة الوحيدة في حياة الغرب التي احتفظت باستقرار نسبي للقيم، إلا أنها حافظت على هذا الاستقرار بتحويل الحقبة الوسيطة كلها إلى محكمة تفتيش كبرى تحكم على الحقبة القديمة بالكفر والوثنية والضلال، وتسجن الحقبة الحديثة خلف قضبان السجون كيلا يتملص منها عصر النهضة، النتيجة أن المشروع الحضاري الغربي عبارة عن علامة استفهام كبيرة بلا إجابة .

إن المشروع الحضاري الغربي لم ينته-على نقيض رؤية أستاذنا الدكتور حسن حنفي
[29](29)-وربما لن يفعل في القريب، إن مَن ينظر إلى المعمار الفني الهائل في السينما الأمريكية مثلًا يفهم هذا، وتأثير الغرب الحضاري امتد إلى اليابان نفسها وحاصر الصين .

صحيح أن المشروع الغربي لم ينته، لكن يمكن القول أنه قد فشل في تحقيق أهدافه التنويرية الإنسانية التقدمية بفشله في حل مشكلة تفكك القيم في داخله هو، وليست المشكلة موضوع الرصد هنا علمانية القيم(بعد انهيار أساسها الديني)، فقد قال المعتزلة بهذا المبدإ قديمًا في الحضارة الإسلامية، ولكن المشكلة فشل المشروع القيمي بعودة المركّب الإلهي-الإنساني مرة أخرى للظهور، بإعادة إنتاجه حديثًا بالتشكّل الإلهي للبشر Theomorphosis، بعد أن أُنتج قديمًا بالتشكل الإنساني للآلهة Anthropomorphosis، وذلك بظهور بونابرت وهتلر وستالين وترومان وبوش بدلًا من زيوس وآرس وبوسيدون وهيرا وهيدس، في دين-أو لا دين-شركي تراتبي جديد .

وإن عبثية التراجيديا وتراجيدية العبث تمثُّلٌ وتمثيلٌ تبادليين للمركب نفسه قديمًا وحديثًا، في الشعور والوعي النظري والإبداع الأدبي الغربي .

تلك الأزمة الغربية قد امتدّ صداها إلى الشرق الجغرافي، فقد تأثّر عدد من أدباء العرب مثلًا بأدب العبث، وبمذاهب الفكر العبثي، وقدموا التراجيديا الإنسانية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن التأثر بمركبات الفكر والإبداع الغربي ظاهرة عالمية لا تعكس خصوصية حضارية كعلة من علل التأثر المحلي، إن الأزمة شرقًا تُخلَق خلقًا، ثم يتم التعبير عنها أدبيًا ونظريًا بهدف التجديد أولًا، وبهدف مزامنة الغرب-الحداثة إبداعيًا وفكريًا ثانيًا .

صحيح أن هناك وعيًا بظواهر عبثية في الحضارة الإسلامية بالمعنى غير الجغرافي، لكنه وعي بالعبثية المجتمعية، لا الميتافيزيقية، الفكرة ليست أن الله غير موجود، أو أنه لا يعتني بالبشر، أو أنه متعدد، بل لأن النظام السياسي قائم، ولا يعتني إلا ببقائه، وهو واحد لا يتعدد، ليست افتقاد العدالة الإلهية، بل افتقاد العدالة الإنسانية، افتقادها داخل المجتمع الإسلامي وفي ذلك العالم الذي شكَّله الغرب الحديث ويُسئَل عنه .


الهوامش:
ـــــــــــــــــ
[1] أرسطو:الشعر، نقلًا عن: أميرة حلمي مطر:فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002م، ص89 .
[2] محمد غنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث.
[3] أميرة حلمي مطر، السابق، ص52-53.
[4] المرجع السابق، ص181 .
[5] المرجع السابق، ص187-189 .
[6] نادية البنهاوي: بذور العبث في التراجيديا الإغريقية وأثرها على مسرح العبث المعاصر في الغرب وفي مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م .
[7] المرجع السابق .
[8] المرجع السابق .
[9] عبد الرحمن بدوي:شوبنهور .
[10] كامو: الإنسان المتمرد، ت: نهاد رضا، دار عويدات، بيروت، 1983م، ط3، ص 85- 104 .
[11] السابق: ص 88 .
[12] نيتشه:هكذا تكلم زرادشت، ت:فليكس فارس، منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر، بيروت لبنان، د.ت، د.ط، ص29 .
[13] دولوز:نيتشه والفلسفة، ت:أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2001م، ط2، ص197 .
[14] السابق:ص200 .
[15] السابق:ص195 .
[16] السابق:ص199 .
[17] انظر مثلًا :فؤاد زكريا:نيتشه، دار المعارف، القاهرة، ط3، د.ت .
[18] دوستويفسكي:الأخوة كارامازوف، م1، ت:سامي الدروبي، دار رادوجا، موسكو، الاتحاد السوفييتي، 1988، د.ط، ص519 .
[19] السابق:ص520 .
[20] دوستويفسكي:الجريمة والعقاب، م2، ت:سامي الدروبي، دار رادوجا، موسكو، الاتحاد السوفييتي، 1989، د.ط، ص488،489 .
[21] نيتشه:نقلًا عن جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص166 .
[22] أنظر دراستنا عن ديوان الشاعر عادل محمد:الظاهرة السيزيفية في ديوان تعودْ أنْ تموت، قُدمتْ في مناقشة الديوان بساقية الصاوي، سبتمبر2007، ومنشورة على موقع مدارات(www.madarat.info)، وموقع رابطة نون للثقافة والحوار(www.adabhome.com) .
[23] أفلاطون:أُطيفرون، ت عن الإنجليزية:د.زكي نجيب محمود، بعنوان محاورات أفلاطون، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
[24] د.مصطفى النشار:أرسطوطاليس، حياته وفلسفته .
[25] أرسطو:الأخلاق إلى نيقوماخوس، ت عن الفرنسية:أحمد لطفي السيد، وعن الأصل اليوناني:بارتلمي سانتهيلير .
[26] ولتر ستيس:الدين والعقل الحديث، ت:إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998م، ط1، ص23.
[27] إرنست ماير:هذا هو علم البيولوجيا، ت:عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، 277، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002، د.ط، ص276 .
[28] جون هرمان راندال:تكوين العقل الحديث، ج2، ت:جورج طعمة، مراجعة:برهان الدين الدجاني، دار الثقافة، بيروت، د.ت، د.ط، ص225 .
[29] أنظر له مثلًا:التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2002، ط5، ص183 .

الفردوس اللامفقود


الفردوس اللامفقود_من أوراق مسيخ دجّال

"تخيلوا معي هذا المشهد، ما يزال صدى الأمر يجلجل في أذنيه، عيناه تدوران، قلبه يتّقد كجمرة في مهب الريح لأنه لا ينبِض، أنفاسه تفرّ من بين ضلوعه فلا يتنفس، آااه ! يا للهول ! الثورة هذه المرة ليست على ملك فرنسا أو قيصر روسيا، إنها ثورة على الخالق والمخلوق، لقد سقط الذي يعتبره المسلمون جنًا والمسيحيون ملاكًا، وغادر الفردوس إلى الأبد."

1-مقدمة:
هذا الموضوع ليس مجال سخرية أو أساطير أوّل من الأولين، خاصّةً وأني مثل المسيخيين من أمثالي لسنا نحب المزاح ولا نفهم الدعابة، فقد جئنا لاعنين مضلِّلين منذرين شهداء على الناس، قانوننا أن نفي النفي إثبات، وأن مسخ المسخ خلق واستواء، وأن كذب الكذب عين اليقين، وأن قتل الميت عناية مركزة.

يظن الناس أن الأمر بدأ عندما عصى إبليس ربه، كان-فيما يُقال..وهو نفسه لا يؤكّد ذلك-جنًا مؤمنًا عبد الله لثمان آلاف عام، في رأيي لم يكن إبليس مؤمنًا لهذه الدرجة، بل هي مبالغة من مبالغات الذين رووا السير والأحاديث لتخويف السامع من فتنة سن اليأس والاغترار بالعبادة، وإبليس له تاريخ طويل عريض قبل خلق آدم لا يعرف منه البشر سوى النزر اليسير، أو لا شيء على الإطلاق، ولم يكن جنًا عابدًا بقدر ما كان جنًا مثقفًا، هو من أعرق عائلات الجن الذين سكنوا الأرض قبل الإنسان، وكان مؤرخًا وطبيبًا وله كتب شهيرة في فهارس تصانيف الجن حتى الآن، وكان ذا موهبة أدبية مبكرة، يقال أنه بدأ التأليف في سن الأربعمائة، وهي من المبالغات التي يصدقها الأغبياء، وهو صاحب أبحاث جيدة في منهج البحث التاريخي وفلسفة الحضارة، أشهرها بحثه الضخم عن أن أصل الإنسان سيكون القرد، وأن العوامل الاقتصادية والبيولوجية والجغرافية هي التي ستحكم مسار حياته ومجتمعه، لأنه كائن هشّ ونذل، وأن الإنسان نفسه سوف يقول عن نفسه ذلك كله يومًا.

نظرًا لهذه الآراء الثورية تعرّض إبليس لغضبة الأصوليين من بني جنسه الذين كانوا يحترمون الإنسان الذي سوف يأتي قبل أن يسكن الأرض، ولكنهم لم يكونوا يعلمون عنه شيئًا، ولا أنه من طين أو من نار، ولما كانت القداسة لها دائمًا على العقل كعب عالٍ وحذاء قديم يدوس الصراصير فقد اضطهدوا إبليس، والحقيقة أن إبليس لم يعبد الله لثمان آلاف سنة مما تعدون، بل ظل تحت الإقامة الجبرية طوال هذه الفترة، ولما كان له بعض الأتباع من الجن الاشتراكي، وعدد كبير من محبي شعره ونثره فقد خشيت سلطات الثورة الدينية المتمركزة في مجلس الحرس الثوري الجنّي غضبةَ العلمانيين وتثويرهم الناس، وفي نهاية الأمر سمحت السلطات لإبليس بالكتابة في الصحف، تحت رقابة مشددة.


2-محاولة اغتيال إبليس:
لم يكن إبليس يخشى في الحق لومة لائم، صحيح أنني لا أصدق قصة تدينه الشهيرة إلا أنني أعرف أنه كان أخلاقيًا كبيرًا، لا يقبل كتمان الشهادة أو الرأي، فلم يقبل بتحكم مجلس الحرس الثوري في شئون وعقائد الدين والفلسفة والعلم والسياسة معًا، فصارت قضيته طوال هذه الآلاف من الأعوام مقاومة السلطة وتنوير العقول وهذا الكلام، وهي المرحلة الأخطر في حياته التي تحول فيها إلى صوفي وفيلسوف وإرهابي وشاذّ جنسيًا، كل هذا كلام فارغ، كل ما هنالك أن قلمه اكتسب روحًا مجنونة غير مسبوقة وراح يهاجم هذا وذاك بلا رحمة على نفسه أو على الآخرين، وقد زاره(حسين شافع مشعل) وحذّره من مغبة فعله وسوء عاقبته، لكنه ردد عبارته الشهيرة(لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس)، أعرف أعرف، قالها مصطفى كامل في أوائل القرن العشرين الميلادي، وقالها عادل إمام في فيلم واحدة بواحدة المسروق عن فيلم أجنبي بنفس الحبكة والسيناريو، لكن أول من قالها كان إبليس الذي لا ييأس، والخلاصة أن إبليس جّنّ تمامًا في هذه الفترة لو جاز التعبير.

ومن ثم كان طبيعيًا أن تحاول السلطات اغتياله والخلاص منه للأبد، وكانت فضيحة، فالسلطات فشلت، وقبض إبليس بنفسه على جندي الكوماندوز الأحمق الذي حاول إطفاءه بالماء، وهو لا يعلم أن إبليس منذ ثمان آلاف سنة لا ينام إلا بووتر بروف ، وكانت هذه هي الحادثة التي أُطلق على إبليس بعدها اسمه، فإبليس لقب معناه المنتصِر، أما اسمه الأصلي فكان (محمد علي كاشف الصدر).

3-انتصار محمد علي:
استغلت الصحف ومنظمات حقوق الجن هذه الحادثة للتشهير بالحكومة، مما أدى إلى كثير من الاضطرابات والتفاصيل التي لن أرويها لضيق المقام، والتي انتهت بسقوط حزب(العلم والإيمان)الحاكم، وصعود حزب الشياطين، وهو حزب فوضوي اشتراكي ترأّسه محمد علي، ومعنى كلمة الشيطان في لغات الجن كمعناها في العربية: المحترِق أو الشائط، وقالت القرون التالية أنهم سُموا بذلك لأنهم أحرقوا معارضيهم بلهب يقضي على الجن، لكن هذا غير صحيح، إنها مجرد استعارة عبرت عن حرق الفكر القديم والخلاص منه نهائيًا، وهم رضوا بذلك الاسم ورضا عنهم، لكني متأكد من أن ممارسات الحزب خلت تمامًا برغم ثوريتها من أي عنف أو قمع، وصارت السلطة في أيديهم تدريجيًا، ولما اشتد عود الحركة استطاعوا الاتفاق على لائحة بأهم المبادئ:

4-مبادئ حزب الشياطين:
1. الحرية أسمى من الخبز، والخبز ألذّ من الدين، والدين علاقة رأسية بين الجن والربّ، لا بين الجن والجن.
2. العلم والفلسفة لا يتفقان منهجيًا مع الدين، وأي محاولة للتوفيق فاشلة، وفي حالة أي تعارض يجب أن يؤوّل الدين لمناسبة الواقع التجريبي، والاتساق المنطقي.(وهو المبدأ الذي ظهر عند ابن رشد في فصل المقال)
3. لا فضل لجني على جنيّة، والتعليم والتربية هي الفيصل لا الجنس.(وهو ما صرّحت به ماري وولستون كرافت في 1792م)
4. كل ملكية سرقة.(وهو المبدأ الذي تكرر بعد ذلك عند جوزيف برودون)
5. في الدولة الثيوقراطية الدكتاتورية يكون الجنون خيرًا من العقل، والكفر خيرًا من الإيمان، والجهل أفضل من العلم، والحرب أشرف من السلام.

-ونظرًا لأن هذه المبادئ والأهداف كانت موضعًا للتنفيذ الفعلي والعاجل وسط أغلبية ساحقة فقد بدأ عهد جديد لم يتكرر في تاريخ الجن من الحرية والعدالة، وعلى رأسه تُوّج-دون منصب تنفيذي حقيقي-محمد علي:إبليس، المنتصِر.

5-المنهج الجدليّ ونهاية التاريخ(تطوُّرُ البحث):
تحول محمد علي بعد ذلك إلى الرهبنة الفكرية بعد أن ضمن انتظام مسار الثورة، وأمن من نكوصها، وانكبّ على أبحاثه يطور فيها ويغير ويحذف ويزيد، ومن هنا بدأ يتشكّل على يديه خلق أخَر من عجائب الفكر الفلسفي ألا وهو الجدل(الدياليكتيك).

يعتمد الدياليكتيك ببساطة على فكرة أن البيضة تلزم عن الفرخة، والفرخة تلزم عن البيضة، وكلاهما يلعب دور(الأطروحة-نقيض الأطروحة)على الترتيب ومن غير ترتيب، وعلى أن كل شيء لكل شيء كذلك، فلا فنان مثلًا بلا فنّ، كما أنه لا فن بلا فنان، وهكذا..، وهي الفكرة التي أعلنها هايْدجر في أصل العمل الفني Der Ursprung Des Kunstwerkes هذا لكي نفهم تأثير إبليس الفادح على بني آدم وفضله عليهم، كما أنه -للمثقفين منكم- لا يخفى ظهور هذا المنهج(الدياليكتيك) عند هيراقليطس وسقراط وأفلاطون وكانط وهيجل وماركس وإنجلز، وإنْ اشتهر به هيجل أكثر.

وما دام كل طرف يلزم عن الآخر بالتبادل فإنه تنشأ لدينا فكرة عن (الكلّ) وهو ما يُعرف بمركّب الأطروحة، وهذا المركب(البيضة والفرخة، والفرخة والبيضة) تنشأ ضده نقيضة بدوره(لا بيضة لا فرخة، لا فرخة لا بيضة)ثم مركب جديد(نعم لا، لا نعم) وهكذا يتطور الفكر فيتطور التاريخ صنيعة الفكر في معمل الدولة الاصطناعي، وهي بالضبط أفكار هيجل، غير أن إبليس كان أكثر بساطة ومباشرة، وكان بعيدًا عن التواءات وتعرجات ومطبات هيجل التي قال بسببها ألبير كامو أن هيجل هو أغمض ما في التاريخ الفلسفي، وأقول أنا عنه أنه هو وحده يفهم نفسه، ونحن نصدقه بلا(جدل)باعتباره فيلسوفًا كبيرًا، أعتقد أن ملك بروسيا كان الوحيد الذي يفهمه بين معاصريه.

ووصل إبليس عن طريق هذا إلى توقع لنهاية التاريخ، سيكون(الإنسان)هو النهاية، والدمار النهائي للعالم، وعلينا نحن أن نمنع هذه النهاية، أو على الأقل أن نرفض السجود لها، وهذا أضعف الإيمان.

لا أذكر كثيرًا من الأحداث في هذه الفترة، لقد تحرك التاريخ بسرعة، أسرع من عقل إبليس نفسه، واشتعلت حرب جنية عالمية، فنزل الملائكة وأنهوا المعركة، وقبضوا على الفريقين، وجرجروهم بالسلاسل إلى أعلى، فانتهى تاريخ الجن الأول، وبدأ عهد جديد مع جار جديد: الإنسان.

6-القصة كما تعرفونها:
خلق الله الإنسان من صلصال كالفخار، وهي معجزة عجيبة وغير مفهومة حتى الآن، الخلق من النار أسهل وأقرب إلى طبيعة الروح اللطيفة الأثيرية، تخيل طينًا يُنبت أعضاء حية لزجة نابضة تسعى للغذاء والتكاثر، سأظل مفتونًا بهذه الفكرة ما حييت، كالحبيبة التي لا أستطيع التخلص من وجهها وعطرها وإيقاع حركة نهديها حين تضحك، برغم أنها تركتني من زمن وأحبت في زمن آخَر، إن المسيخ الدجال أيضًا يحبّ لكنه لا يستطيع إبدال محبوباته، المحبوبة لا تُرد ولا تستبدَل، وهذا ليس موضوعنا على أية حال.

أذكر عينيّ إبليس في تلك اللحظة وهو يشاهد(الخروج)كما تتحدث عنه سورة(ق~)، لقد انبهر، واهتز ركن فمه بإعجاب، ثم ضحك، ثم بكى كطفل في الحضانة، إنها لحظة الاستماع إلى مطلع سيمفونية بيتهوفن التاسعة التي طالما أحبها إبليس، أقسم أنني رأيت في عينيه الحسد، لا يحسد الإنسان بل الخالق، لا يحسد الخالق سوى الفنان، إن حاسدي الإنسان منحطّون ناضبو الخيال فقراء القريحة، كان إبليس يقول في قصيدة له أنه يخلق بشِعره كل ما يزحف ويمشي ويطير وينبض، فإذا به يرى انشقاق الأرض وانبلاج الأعضاء، أعرف أن إبليس ذهب بعد ذلك إلى مكتبه ومزق قصيدته التي لم تُطبع أبدًا.

ثم استوى الإنسان فرأى فيه إبليس الشر، هذا خلق رجيم، صحيح أن الله فضل الإنسان على كثير مما خلق، لكن هذا كان رأي إبليس على أية حال، الإنسان في الإنسان منحلّ متعفّن، وكتبَ على حافة كتاب كان معه في تلك اللحظة: " هذا الإنسان رجيمْ، من يحيي الإنسانْ، في الإنسانْ، وهْو رميم؟ "، وهذا كان آخر ما كتبه من شِعر.

ثم أمر الله الملائكة وإبليس أن يسجدوا لآدم، فاحتار إبليس، يريد أن يسجد لمعجزة الخلق، لكنه يرفض السجود للمخلوق الذي تكدّست في أحشائه ذرات البلايين من الأحفاد المتفرعنين المتألهين وأخسّ منهم أولئك الكهنة المنافقين والأنبياء الكذبة، واحتدم الصراع في نفسه، تخيلوا معي هذا المشهد، ما يزال صدى الأمر يجلجل في أذنيه، عيناه تدوران، قلبه يتّقد كجمرة في مهب الريح لأنه لا ينبِض، أنفاسه تفرّ من بين ضلوعه فلا يتنفس، آااه، ياللهول، الثورة هذه المرة ليست على ملك فرنسا أو قيصر روسيا، إنها ثورة على الخالق والمخلوق، لقد سقط الذي يعتبره المسلمون جنًا والمسيحيون ملاكًا، وغادر الفردوس إلى الأبد.

7-القصة كما ستعرفونها:
ملتون أحمق، هذه معلومة يعرفها الجميع لكنهم يحترمون أدبه على كل حال، لم يحاول الشيطان أبدًا الرجوع إلى الفردوس المفقود لأنه لم يعتبره مفقودًا، ولأنه لم يكن له، كان إبليس على العكس يحن إلى الجدران المشققة والأطلال المائلة على الأرض، إنه أول بكّاء على الأطلال، وهو من علم البشر الجاهليين البكاء على أطلال القبيلة أو أطلال الاشتراكية والقومية العربية وغير العربية، إن حياته هنا على الأرض، والسماء أرض منعكسة في المرآة، كتبَ هذا مرارًا في شعره لكنْ لم يفهمه أحد، هذه ذكريات قديمة الآن.

لقد دعا الشيطان آدم، نعم، هكذا، لم يسع إليه ولم يطارده، لقد انتظره في طريق طويل مليء بظلال أشجار الجنة، في ليل بلا شمس آفلة أو قمر ماحق، فتوجس آدم منه خيفة، لكنه اقترب في افتتان، خطوة خطوة، حتى وقف أمام ذلك الطويل المعتدّ بالذات الذي التمعت إحدى عينيه بضوء بعيد وغامت الأخرى في ظلامٍ قريب، كان الشيطان قد تشوّه، هذه هي المعلومة التي أصاب فيها ملتون، كان هذا أول عقاب له، ففزع منه آدم، وانطلق يجري بعيدًا، لكن الشيطان كان قد نظر له فتجعّد فيه القلب، لقد دس الشيطان فيه جزءًا من ذاته، سيغريه بالخروج والتبرّج بالخطيئة المبرقشة الملونة كالأشجار التي تتبرج بالتفاح والكمثرى، وبالخلد والألوهية وهو الهش العاجز، فسقط الإنسان كذلك، عندئذٍ استدار الشيطان وهو يعلم أن الإنسان سيكمل الطريق إلى النار وحده، وأنه سيصل.

8-ظهور المسيخ الدجال:
أعرف أن هناك أنبياء صادقين، ولكنْ لما كانت النبوة فتنة من الفتن، والدين شهوة من الشهوات، صار كل من هبّ ودبّ يدعي نبوته الخاصة، فإذا لم يجرؤ تذرع بنبيّ سابق وادعى شرحه والدعوة إليه وهو منافق مخادع، أجهل من الثيران في البرسيم، بل هو البرسيم نفسه، بل قل: أنه أجهل من الإنسان الذي يأكل مع الثيران البرسيم، إنه نوع جديد من الدعارة الفكرية، واحتكار المشيخة، وادعاء الإلهام وتفسير الأحلام، هذا هو المسيخ الدجال الحقيقي، يأمر بالصلاة وهو يعلم أن الحاكم رب لا تأخذه سنة ولا نوم، يأمر بالزكاة وهو يعلم أن السرقة هي هدف العملية الاقتصادية للدولة، يأمر بالحجاب وغض البصر وهو يعلم أن الفقر هو سبب الإباحية في بلده، يأمر بالطهارة والسرطان في بلده يسجل أرقامًا قياسية، يروّج منتجات الطب النبوي وكتب تفسير الأحلام وهو يعلم أن الشعب لا يقرأ ولا يكتب ولا يتعلم، يكفر المفكر وأستاذ الجامعة وهو أحط البشر خلقة وأكثرهم كذبًا وغرورًا وجهلًا.

ثم غرّت الناسَ لحى التيوس(كما قال محمد بن زكريا الرازي)وهم دائمًا أغبياء غوغاء ما اجتمعوا على شيء إلا وهو باطل، فساروا خلف الشيوخ والأولياء، وتحطمت كل مثل حزب إبليس العليا في حياته الأولى وعهده الأقدم، واختلط الزيف بالحقيقة، والشر بالخير، والقبح بالجمال، وهي نهاية التاريخ بالضبط كما توقعها إبليس، لا بقاء للعالم مع اختلاط القيم، لقد أصدر الشيطان حكم الإعدام على العالم وبعثني أنا لأخنق الإنسان وأصفّي دمه بأهدأ الطرق وأكثرها تعقيمًا.

ألا فاعلموا من هو المسيخ الدجال الحقيقي، والحرب بينه وبيني لن تُبقي إلا على أحدنا، أنا أو هو، وفي الحالين سيفنى الإنسان بيننا.

ألا أن الساعة اقتربت، والأقمار انشقت، وما من شيء ببعيد إلا الرحمة، فاخلعوا الأردية والأعضاء البشرية السخيفة، وموتوا بصدق، موتوا بشرف، ثوروا على هؤلاء المخادعين وكونوا شياطين حقيقيين، ارفعوا رءوسكم يا إخواني، فقد انتهى عهد الإنسان، لا تسجدوا له أيها الناس، لا تسجدوا له.

إني قد بلّغتُ، إني قد أخفيتُ، إني بصّرتُ، إني عمّيتُ وغمّيتُ، وما هم عني بغافلين، وما الشرير إلا أخرس، وما الأصم إلا لعين.

إني لعين.

آميـــــن.

كريم الصياد- في 29-مايو 2008

نقد آليات التسلّط

19.6.08












استضافت الجمعية الفلسفية المصرية جماعة جذور الفكرية في ندوة للجماعة عن كتابها الأول(تحت الطبع)بعنوان: اثنتا عشرة عينًا على مشهد التسلّط، وذلك يوم 13-إبريل 2008، وكانت الندوة تحت عنوان" نقد آليات التسلط"ودار موضوعها-وموضوع الكتاب-عن الأشكال المختلفة التي تظهر بها أو تتخفّى فيها السلطة وتمارس من خلالها أدوارها، وقد تحدّث في الندوة ثمانية متحدثين:


1-رشا ماهر: السلطة العرفية، وموقف المثقف من السلطة

2-عبير سعد عبد العظيم: الجذور النفسية للتسلّط
3-جهاد عبد الرحمن: السلطة اللغوية

4- بلال الشريف: السلطة الوجدانية في التصوّف

5-ميلاد خلف الله: سلطة مقولة نهاية التاريخ في المذاهب الفلسفية الشمولية

6-مصطفى رزق: سلطة التوثيق في الرواية التسجيلية-صنع الله إبراهيم نموذجًا

7-مصطفى السيد: سلطة التدوين التاريخي

8-كريم الصياد: سلطة بنية العلم العقائدية في علم أصول الفقه


وحضر الندوة عدد من أهم أساتذة الفلسفة في مصر كالدكتور حسن حنفي، والدكتورة أميرة حلمي مطر، بالإضافة إلى عدد كبير من الأساتذة وشباب الأقسام والمهتمين بالثقافة الفلسفية، وجرت مناقشات ثرية بالنسبة لكل أطروحات المتحدثين.



_* "من اليمين: كريم الصياد، أ.د.حسن حنفي، رشا ماهر"_