قرأت لـي.. أقدم لـك

20.9.08









الفن والتصوف عند أفلوطين

أولًا. حياته
ولد حوالي عام 204/ 205م بمدينة ليقوبوليس في أواسط مصر، وقد عنى والديه بتنشئته وتثقيفه فذهب إلى المدرسة في عامه الثامن لتلقي العلوم الأولية. وحينما بلغ الثامنة والعشرين شعر برغبة شديدة في دراسة الفلسفة على يد مدرسي الإسكندرية من ذوي الشهرة الواسعة آنذاك، فذهب إليها وبعد فترة من البحث عن أستاذ يروي ظمأه إلى العلم، أرشده أحد أصدقائه إلى "أمونيوس" وما أن إستمع إليه حتى أعجب به وظل يلازمه ويدرس عليه حتى بلغ التاسعة والثلاثين من عمره أي حوالي إحدى عشرة سنة كاملة.
وقد أحس أفلوطين آنذاك بالحاجة إلى الاطلاع على مباديء الفلسفة الفارسية والهندية فانضم إلى حملة الامبراطور "جورديان" التي كان يستعد لشنها على فارس. لكن الحملة لم تكتمل حيث قتل الامبراطور في إحدى المدن العراقية، فهرب أفلوطين بصعوبة إلى "أنطاكية" ومنها إلى روما حينما تولى الإمبراطور "فيليب" وكان فيلسوفنا قد بلغ آنذاك الأربعين.
ثانيًَا.كتاباته
كان أفلوطين مشغولًا بمشكلات فلسفية فكرية تنم عن شخصيته حيث كتب عن: الجمال، وعن خلود النفس، وجوهر النفس، وصور الوجود، وهبوط النفس إلى الجسم، والواحد، وهل كل النفوس واحدة، وأصل ونظام الموجودات، وأرواحنا الحارسة، والأقانيم الثلاثة Hypostases، والفضائل، والأعداد، والإرادة الحرة، والعالم، وأنواع الوجود، والعناية الإلهية، والسعادة، وطبيعة الشر، وعن النجوم، والحب،.... إلخ.

ثالثًا. فلسفته
رغم تنوع جهات النظر إليها، وورغم تنوع عزف صاحبها على أوتار عديدة، إلا أنها فلسفة البحث عن الوحدة. البحث عن الوحدة خلف الكثرة الظاهرة، والبحث عن كيفية صدور الوحدة عن الكثرة.. ولذلك كان حديث المؤرخين عن فلسفته حديثًا يميزون فيه دائمًا بين طريقين: 1. طريق صوفي صاعد تصعد فيه النفس من الكثرة المتمثلة في ظواهر العالم المحسوس إلى الوحدة المتمثلة في الواحد أو المطلق. 2. طريق فلسفي هابط تهبط فيه من الوحدة إلى الكثرة، من وحدة المطلق إلى العقل الكلي إلى النفس الكلية ثم إلى كثرة ظواهر العالم المحسوس مرة أخرى.

1. استطيقاه
على الرغم من سيادة النزعة الحسية والمادية في العصر اليوناني الروماني، إلا أنها لم تحل دون سريان تيار روحاني يستلهم الأسرار الدينية والنزعات الصوفية التي استمدت من فلسفات وأديان الشرق القديم، الأمر الذي ظهر بوضوح عند أفلوطين ومعاصريه أمثال "ديون كريسوستوم" الذي رأى أن أنسب الصور لتمثيل الآلهة هى "الصورة الإنسانية". واستمر النقاش حول الآلهة في الفن هل يجوز في صورة حيوانية أم في صورة البشر.. وقد كان هذا الجدل مسار بحث هام في "علم الجمال" عند كاتب معاصر لأفلوطين وهو "فيلو ستراتوس 170: 245" الذي كتب مؤلفا عن حياة أبوللونيوس أعاد فيه النظر في فكرة المحاكاة التى كانت عماد نظرية الفن عند سابقيه ، بل وعنى بنظرية أخرى في تفسير الفن تعتمد على "الخيال الخلاق" فذهب للقول بأن: المحكاة تلتزم بما يقع تحت الحس في حين أن الخيال يتجاوز الحس... فالخيال يحلق إلى آفاق أرحب من الواقع.

2. الجمال
عرف أفلوطين الجمال بأنه "موضوع محبة النفس"؛ لأنه من طبيعتها وهو ينتمي إلى عالم الحقائق العقلية، فهو بطبيعته أقرب إلى النفس منه إلى طبيعة المادة، ولذلك فهى ترتاح له وتحبه في حين يكون القبيح أقرب إلى طبيعة المادة.. لذلك يرى أن كل ما تشكل بحسب فكرة معقولة صار أجمل، فالجميل هو المصور، والقبيح هو ما يخلو من الصور المعقولة. لكن ما برهان ذلك؟؟
يتمثل البرهان في أننا لو قارنا -مثلًا- بين حجرين أحدهما قد نحت على صورة ما كأن تكون إنسان، وترك الأخرى بغير تشكيل أو صورة معقولة فإننا نلاحظ أن الأول سوف يتفوق على الآخر في القيمة الجمالية. فالجمال يصدر عن الصورة أو "المثال" الذي ينتقل من المبدأ الخالق إلى مخلوقه، كما ينتقل جمال الفن من الفنان إلى عمله الفني. وعلى الفنان إذا أراد بلوغ الكمال في عمله ألا ينتقل عن الطبيعة بل أن يستمد من عالم المعقولات "الصورة الكاملة" التي تشكل بها الطبيعة، فيقول: إن فيدياس المثال لم يصور الإله زيوس بحسب ما قد أبصر، بل كما لو أراد الإله نفسه أن يكون عليه لو أنه بدا للناس.
والسؤال الآن: أليس هناك جمال في الطبيعة؟
الجمال إن وجد في الطبيعة أو وجد في الفن فإنما مصدره دائمًا "الصورة" التي تنتسب إلى العالم العقلي لأن الطبيعة "تحاكي" النماذج العقلية أو المثل على حد قول أفلاطون. والوسيلة التي يبلغ بها الإنسان الكمال فى عمله "التطهر"، فلابد وأن يطهر نفسه حتى تكتشف المثل العقلية المتواجة بباطنه، والتي تصله بالعالم الإلهي الخالد. وليست هنالك وسيلة لدى أفلوطين للتطهر، فالنفس تطهر نفسها من الارتباط بالانفعالات والمحسوسات لتتأمل النور الباطني لتسمو للعقل الكلي، في حين أن التطهير لدى "أرسطو" يكون عن طريق "التراجيديا".
1. التدرج الجمالي
إن الجمال يوجد في "الفن" أكثر مما يوجد في الفنان، ويوجد في الفنان أكثر مما يوجد في أعماله الفنية؛ لأنه يكون دائمًا في "العلة الأعظم" مما هو في المعلول، ولذلك كانت الألهة أعظم وأجل فنًا لأن العقل فيها أعظم مما هو فينا... فالجمال لا ينتقل بأكمله بل بجزء منه فقط؛ لأن الأصل يتضاءل كلما هبط على نحو ما نصف شعاع النور كلما بعد عن مصدره، فكل علة تكون في ذاتها أقوى من معلولها.
وتنتهي نظرية أفلوطين إلى نوع من "الطهارة الروحية" التي ترتفع بالنفس من العالم الحسي إلى عالم الحقائق الروحية الذي يعلو على الحس، والذي يلهم من يصل إلى تأمله بالشوق الدائم إليه والعزوف عن العالم الحسي، فيوحد بين الجمال والخير الأقصى أو الحقيقة القصوى.
2. نظرية التناسب الجمالي
على أساس هذه الاستطيقا الصوفية تم تفسير جمال المحسوسات ما كان منه في متناول البصر أو السمع بأنه لا يرجع إلى تناسب أجزائها، كما يقول معاصريه أمثال الرواقيين وشيشرون القائلون بأن: الأشياء المركبة المتناسبة أجزائها من رأس وقدم وذراع تكون جميلة. إذ لو كان التناسب هو سبب الجمال فإنه يقتصر على "الأشياء المركبة" وينعدم من الأشياء البسيط، وإن جاز هذا القول فسوف يكون "الكل" هو الجميل وتكون "الأجزاء" قبيحة وهذا يؤدي لتناقض؛ إذ كيف يصح أن يتولد الجمال من إجتماع أجزاء قبيحة... ومن جهة أخرى فإن التناسب والمقاييس إنما هى أفكار تتعلق "بالكم" ومن ثم لا يجوز أن تطبق على الحقائق الروحانية، كالأفعال والأخلاق والأفكار. ومن ثم –أيضًا- يبغي أفلوطين في النهاية رد الجمال إلى علة أو سبب معقول، وينتهي إلى نظرية أقرب إلى التصوف الذي يوحد بين حقيقة الوجود والخير والجمال، والذي يصور شوق النفس الإنسانية المستمر إلى الاتصال بهذه الحقيقة والتشبه بها.
3. النظرية الرمزية
في حقيقة الأمر إن تصوف أفلوطين وكراهيته للعالم المادي قد انتهى به إلى تشبيه الجمال بالنور الباطني الذي تستضئ به النفس ثم تضيء كل شيء. وقد يُطل النور ويشع الضوء من خلال الصور المشوهة وقد لا يكون التناسب الظاهري المحسوس جميلًا؛ لأن ما يكون في الحس مشوهًا قد يرمز إلى ما وراء الحس من جمال. وإن ملاحظة "سقراط" التي أبداها للمصورين بأن يعنوا بتعبير الوجه والعين عن الخير الباطني، إنما كان لها صداها العميق على فلسفة أفلوطين التي اتسعت لنزعة رمزية في الفن تتلخص في تجاوز المحسوس إلى ما وراءه من مباديء العالم العقلي، بحيث إن كل ما يخلو من آثار العقل أو العالم الروحاني لا يكون موجودًا ولا جميلًا لأن الوجود كله إنما يدين بوجوده دائمًا لقوانين عالم العقل.
4. التوحيد بين الجمال والوجود والخير
بناءًا على رمزيته الميتافيزقية ينتفي القبح من العالم المحسوس الظاهري، فلا يوجد شيء قبيح تمامًا؛ لأن الموجودات كلها إنما توجد بفضل مشاركتها في الحقيقة العقلية التي يتحد فيها الوجود بالخير والجمال "كل شيء جميل بقدر ما فيه من وجود"، فكل شيء به درجة من درجات الجمال. ولما كان الوجود الحق هو الخير وهو أيضًا غاية كل الكائنات فإنه يكون أيضًا محور عشق الكائنات.

3. الحب
إن أمكن لأحد أن يرى هذا الوجود الإلهي فأي حب سوف يغمره وأي رغبة سوف تتملكه، إننا نتطلع إليه بدون أن نراه، فإذا عايناه فسوف ننبهر بجماله وسوف يمتليء الرائي بالعجب والبهجة بل سوف يتملكه الذهول ويمتليء حبًا حقيقًا ويسخر من كل لأنواع الحب الأخرى، وينأى عن كل ما كان يظنه فيما مضى جميلًا وسوف يكون حاله حال أؤلئك الذين سبق لهم رؤية الصور الروحانية والإلهية فأصبحوا لا يأبهون بأي جمال من جمال الأجسام فكيف إذن إن رأينا الجمال في "ذاته"، الجمال الخالص النقي غير المدنس بالمادة والجسد، وهو الجمال الذي لا يسكن الأرض ولا السماء بل يوجد حيث يكون "النقاء". إنه الجمال المكتفي بذاته الذي يفيض على محبيه جمالًا ويملاءهم بالحب، وتلك هيى الغاية القصوى التي تسعى إليها النفوس، وهى الرغبة التى تستحوذ على كل وجودنا حتى نبلغ هذا التأمل الذي يغمرنا بالسعادة.
وبهذا الوصف الذي وصف به أفلوطين شوق النفس وتطلعها إلى جمال العالم الروحاني يكون جعل من تجربة التأمل الصوفي غاية التجربة الجمالية؛ لأن الاستجابة الجمالية للفن ليست غاية في حد ذاتها بل تستمد قيمتها من كونها دالة على الحقيقة العقلية الروحانية شأنها شأن الاستجابة لجمال الكون والزطبيعة باعتبارهما من آثار المبدأ الإلهي المقدس والعلة الأولى التي تلهم نفوس الصوفية بالشوق الدائم والتطلع إلى معاينة هذا المبدأ والاقتراب منه.
وجدير بالذكر أن هذه النزعة الصوفية الرمزية كان لها أثرًا عظيمًا على الإسلام حيث التصوير الإسلامي الذي بعد عن التصوير الطبيعي تصويرًا حرفيًا واتجاهه إلى التجريد، وهذا يتراءى في فن الزخرفة والمنحنيات وطباعة المنسوجات، وكذلك في فن الخط العربي. وقد تحدث فلاسفة الإسلام والصوفية عن "المخيلة" التي يمكن أن تعد من القوى الباطنة والتي يمكن أن تكون في خدمة العقل لأنها توجه السلوك والقوى النزوعية، وكذلك يتجلى فيها إبداع الفنان.

ملحوظة هامة:
هذه المقالة مجرد ملخص للفصل الرابع من كتاب "فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها" لفيلسوفة الحب والجمال أ.د. أميرة حلمي مطر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طـ2002. قمت به أثناء دراستي للفلسفة وبحثي السديم في أفلوطين.

0 Comments: