المركّب التراجيدي_العبثي

20.6.08


المركّب التراجيديّ_
العبثيّ
في
الحضارة الغربية


"إذا كان زماننا يسلّم دونما صعوبة بأن للقتل مبرراته، فذلك بسبب عدم الاكتراث بالحياة التي تتميز بالعدمية"
ألبير كامو:الإنسان المتمرّد:ص11



تقديمٌ :
تحاول هذه الدراسة المختصَرة التوغّلَ تحت القشرة الأدبية للحضارة الغربية إلى عمقها السيكولوجي والفكري، وذلك عن طريق تحليل موضوعات وآليات المسرح الكلاسيكي والمعاصر بالتركيز علَى ما سُمي هاهنا بالمركب التراجيدي العبثي، في كل من مسرح التراجيديا ومسرح العبث، وإبراز الطابع المزدوج لكل منهما، والإحالة المتبادلة بينهما، وتتبُّع العوامل التي أدت إلى ظهور هذا المركب على هيئة (ظاهرة) انبرت الأقلام في الغرب لمعالجتها، وتنافست على استقصائها وتوضيحها والتركيز عليها، بشكل لا يمكن أن يمرّ بلا تعليق .


وسيتضح في نهاية الدراسة أن هذا المركب الأدبي يمكن إحالته إلى مركب آخر فكري وعقائدي هو المركب الإلهي-الإنساني، الأمر الذي يمكن من خلاله فهم أساس الأزمة القيمية الغربية، وأزمة العالم الإسلامي الحضارية أيضًا، من أجل إكمال الدائرة النقدية .

ومحاولة فهم الظاهرة الحضارية عن طريق تحليل موضوعات التعبير وأشكاله تشبه ما قام به الغرب-على نطاق أصغر-من تحليل للأحلام(من حيث الموضوعات وأشكال التعبير)بغية فهم الشخص، وهو انعكاس/رد فعل منهجي وعلمي يمثّل لما استهدفه مشروع علم الاستغراب Occidentalism-وهو إحدى جبهات مشروع اليسار الإسلامي-من تحويل الغرب إلى موضوعٍ لدارسٍ/لدراسةٍ بدلًا من الاستمرار في اعتباره دارسًا/دراسةً لموضوع .

والهدف من هذه الدراسة-ومن علم الاستغراب عمومًا-هو فهم وتقييم التجربة الغربية باعتبارها تجربةً-من-التجارب الحضارية، وقياس مدى نجاحها، ووصف عناصر هذا النجاح إن وجدتْ .

وتنقسم الدراسة إلى خمسة أقسام رئيسية:
1- العنصر التراجيدي : وينقسم بدوره إلى : 1-1 : حبكة المسرح التراجيدي
1-2 : الطابع العبثي للحبكة التراجيدية
2- العنصر العبثي : وهو الذي ينقسم إلى:
1-2 : حبكة المسرح العبثي
2-2 : الطابع التراجيدي للحبكة العبثية

3- المنشأ العقائدي للمركب التراجيدي-العبثي : وفيه يتم بحث الأسباب التي أدت إلى ظهور المركّب الموضّح سالفًا في تاريخ الفكر الغربي .

4- العناصر المسرحية بين الإنساني والديكوريّ : وهو تحليل لوظيفة العناصر المسرحية الأساسية للكشف عن دورها الذي لعبته في المسرحين، وعن مؤدَّى هذا الدور، وعن مدى ومتجه التطور الداخل على الأدوات المسرحية من التراجيديا إلى العبث، ويتضمن:
1-4 : اللغة
2-4 : الحَدَث
3-4 : الشخص

5- خاتمة : الأزمة العقائدية الغربية في ضوء المركّب الإلهي_الإنساني.

1-العنصر التراجيدي:
1-1 : حبكة المسرح التراجيدي:
يعرّف أرسطو التراجيديا بأنها"محاكاةٌ لعمل جدي كامل ذي طول معيّن، بلغةٍ مشفوعةٍ بألوان من التزيين يرد كل منها على انفراد في أجزاء العمل نفسه، وبأسلوب درامي مسرحي لا قصصي، وتثير حوادثها الشفقة والخوف لتحقيق التطهير من حدة الانفعالات"
[1] (1)، وأهم ما في هذا التعريف عنصر التطهيرKatharsis، الذي يفترض كون البطل غير مستحق لما يحل به من شقاء، برغم أنه ليس خيرًا كل الخيرية كذلك، وهو ما يثير الإحساس بالخوف والشفقة، أما عن رؤية أفلاطون فقد اعتبرها فنٌا لا أخلاقيٌا إذ تضيّع اعتدال النفس[2] (2)، ورفضَ تضمنها لعنصر التطهير بالتالي، فالاعتدال فضيلة الفضائل عند أفلاطون، ذلك وإن كانت محاوراته أقرب إلى روح التراجيديا إذ تدور حول المثل العليا(وهي خاصية تعظيم البطل في التراجيديا)ولا تنتهي إلى حل واضح [3](3).

أما عن الطرح الحديث للفكرة حين النظر في رأي كل من شوبنهورSchopenhauer(1788-1860)، ونيتشهNietzsche(1844-1900)، فيشير إلى تطور واضح في المفهوم ومتجه المعالجة، فشوبنهور يرى أن التراجيديا قمة فن الشعر وذلك لأنها تقدم لنا صراع الإرادة مع نفسها، وتوقظ في الإنسان تلك المعرفة التي تذكره بأن الحياة ليست جديرة بأن يتمسك بها وأن السعادة فيها غير ممكنة، وهي تقدم ذلك المعنى من خلال صراع يرجع مصدره إلى الشر أو القدر الأعمى أو تصادم الإرادات
[4](4)، ويتضح هنا أن شوبنهور حين مجّد التراجيديا فعل ذلك لأنها تلخّص فلسفته في الحياة ومصير الإنسان، بمعنى من المعاني يمكن القول بأن الإنسان بالمعني العامّ للكلمة من منظوره هو بطل التراجيديا، وأن التراجيديا تُحيل إلى ما خارجها بشكل ما .

أما نيتشه فيرى على العكس من شوبنهور ضرورة إطلاق إرادة الحياة على هيئة إرادة القوة der willen zur macht، فالتراجيديا ككل الفنون في رأي نيتشه تعبر عن الصراع بين عنصري العقل والإرادة، أو بين الحلم والسُّكْر، بحيث يجسّد الفن في النهاية اللامحدد في إطار المحدد، الإرادة في إطار العقل، وحين يجسّد كذلك صراع الإرادة البشرية مع الطبيعة
[5](5)-وما وراء الطبيعة أيضًا-.

والواضح أن المفهوم اكتسب تعميمًا كبيرًا في الفكر الأوروبي الحديث(قبل الحربين)على مستويات أخرى غير الأدب، ورغم التعارض الظاهر بين شوبنهور ونيتشه في مسألة إرادة الحياة، إلا أن كليهما يمارس هذا التعميم على الحياة والمصير البشري، فإذا كان (الإنسان) ممثلًا تراجيديًا في رأي شوبنهور، فإن (الإنسان الأعلى) هو من يلعب دور البطولة التراجيدية في نظر نيتشه، فقط نظر شوبنهور إلى الإنسان من وضع رأسي يرى كل الرءوس سواءً، ونظر له نيتشه من وضع أفقي يرى تفاوت القامات والإرادات على الخشبة المسرحية ذاتها ووسط الديكور نفسه، وهو تعميم يرتبط بالعنصر العبثي الذي سيأتي عليه البحث، وعلى فحوى ذلك التعميم أيضًا، فيما يلي .

2-1 : الطابع العبثي للحبكة التراجيدية:
إن جوهر التراجيديا كاصطلاح هو ذلك التناقض الذي يلحظه المشاهد أو القارئ بين الخير والألم في شخصية البطل، فرغم أن البطل قد لا يكون مثاليًا من الناحية الأخلاقية إلا أن مأساته تقع لأسباب خارجة عن سيطرته، أو خارجة عن بشريته، ونظرًا لذلك التناقض يمكن للمشاهِد أن يستشعر الطابع العبثي للحبكة التراجيدية بسهولة، ذلك في ضوء تماهي القيم وتعارض المقاييس بين العالمين : الإلهي-الإنساني، وضياع معنى العدالة الموضوعية، بل إن أسطورة سيزيف ذاتها-والتي كتب عنها الفيلسوف العبثي الوجودي المعاصر ألبير كامو كتابًا شهيرًا عام 1942م-مثال من أمثلة التراجيديا، ويتضح من تحليل نموذجه أن المأساة في التراجيديا القديمة ارتبطت في الأغلب بصراع بين الإنسان والآلهة، فسيزيف أخ سلمونيوس-وهو فرعون اليونان-هو الذي خدع بلوتو إله العالم السفلي ليعود إلى الحياة، وادعى أنه يريد أن يقسم تركته بين أولاده فحسب ثم لم يعد، ويقال أن سبب غضب بلوتو عليه أنه حبس آلهة الموت، ويقال أنه أغضب زيوس حين دلَّ صديقه سوبوس على مكان ابنته إيجينا التي كان زيوس قد اختطفها
[6](6)، كما يتضح فيما سبق أيضًا الصراع بين الإنسان والموت، وهو صراع عبثي في حد ذاته، عامّةً يمكن التمثيل لذلك في إطار رصد ظاهرتين أدبيتين-فكريتين-دينيتين لدى الإغريق كالآتي:

1-2-1 : ظاهرة انعدام العدالة الإلهية:
نظرًا للدين الشركي(الهيراركي)والطبيعة البشرية لآلهة اليونان كان من المستحيل تصوّر الحساب العادل الأخلاقي، بل كان من المستحيل تصور ميزان موضوعي محدد للأخلاق في الحياة الدنيا، وقراءة محاورة أُطيفرون لأفلاطون مثلًا تتيح تأمل هذه الظاهرة فيما يشبه النقد الحضاري الذاتي(وسيلي حديث عنها)، وتحت هذا العنوان يكن إدراج ظاهرتين فرعيتين يتمثل فيهما ضياع معنى العدل الموضوعي : أولًا ظاهرة اللعن : كلعنة بلوتوس أو زيوس على سيزيف، ولعنة زيوس على بروميثيوس، ولعنة لابداكوس التي بدأتْ مأساة أوديب، ولعنة أتريوس التي بدأتْ الأورستيّا(أجاممنون-حاملات القرابين-آلهة الرحمة)
[7] (7)، وغالبًا ما تكون هذه اللعنات لأسباب تافهة من جهة، أو لأسباب ناتجة عن الأنانية في طباع الآلهة من جهةٍ أخرى، ثانيًا : ظاهرة النبوءة : فمعظم المآسي تحققُ نبوءة ما، مما يوحي بفكرة القضاء والقدر التقليدية، وانه لا مفر من المصير المرّ من ناحية، وأنه محدد سلفًا دون أن يخضع لقواعد من ناحية ثانية، نظرًا لاختلاف الأخلاق الإنسانية عن الإلهية باختلاف حدود الحق بين الحالتين .

2-2-1 : ظاهرة عبثية الموت :
نظر الفكر الغربي القديم للموت نظرة تشاؤمية لا خير فيها ولا نعيم ولا حساب عادلًا، بعض أدباء اليونان اهتمّوا مثلًا بموت الأطفال بشكل ملحوظ، كيوريبيدس في(إيفجينيا في أوليس) و(إيفجينيا في تاوريس)حين هدد أجاممنون بقتل إيفجينيا ابنة كليتمنسترا، وكذلك في (الطرواديات)حين توفي استيانالس ابن أندروماخي من هكطور وهو طفل
[8](8)، وغير ذلك، والسبب في شعور اليونان بتراجيدية الموت العالية هو شعورهم بأنه عقاب لا حساب، وأن الميت لا يستحقه في الأغلب .

والناظر إلى الإلياذة مثلًا يتبين ذلك الطابع التراجيدي العبثي في كل قصة من قصص أبطالها كل على حدة، فهكطور مثلًا أعظم أبطال الملحمة مجرد متورّط في الدراما لا أكثر، هو غير متضامن مع باريس أخيه أخلاقيًا، ويريد الدفاع فحسب عن مدينته، حتى يصطدم في النهاية بأخيل الذي هو-بشكل ما-شبه إله، وأخيل نفسه يريد الدفاع عن شرف مدينته وملِكه، فيلقى الموت على يد أتفه أبطال الملحمة-باريس-بمعاونة أبوللو .

ذلك الطابع العبثي لم يقتصر على روح التراجيديا قديمًا، بل إن أهم الفلاسفة التراجيديين(شوبنهور ونيتشه)ربطوا بين فكرة عبثية الحياة ولا غرضيتها المطلقة من جهة، وموقف الإنسان التراجيدي من جهةٍ أخرى، ذلك إن لم يكونا قد استخرجا ذلك الموقف من تلك الفكرة أساسًا .

فشوبنهور في (العالم إرادةً وتمثلًا) يعرض نظريته في إرادة الحياة، ولا يجب أن يُفهَم هذا التركيب ليعني أنْ نحيا أو أن تحيا، بل المقصود أن للحياة ذاتها إرادة تتجلى في طبيعية وحتمية غريزة التكاثر في جميع الكائنات الحية حتى البشر، وما يرتبط بهذه الغريزة الأصلية من حب وفن وجمال، ومن البدهي أن النظر إلى الحياة البشرية من هذا المنظور يضعها في سياق الحتمية Determinism التي تتنافى مع الغائية Purposiveness، ويجرّد الحياة من كل غرض إنساني إرادي ويجعلها مسرحية عبثية حقيقية، فليس للحياة الإنسانية هدف إلا تحقيق هدف ذلك السياق الكلي الشامل اللامتناهي غير العاقل: الحياة، وما نحسبه أهدافًا لنا هو في الحقيقة نتيجة لها سبب حتمي طبيعي بيولوجي، يقول شوبنهور مثلًا عن الحب: إن رعشة أيدي المحبين هي ارتعاشة الجنين القادم في الرحم بعد هذا الحب
[9](9)، وهكذا يصل شوبنهور-انطلاقًا من العبث-إلى التراجيديا، فموقفه كفيلسوف، وموقف كل من يرى ما رأى، يعبّر عن مأساة اكتشاف الخدعة، واكتشاف تفاهة السعي البشري والمثل البشرية، وذلك دون جناية معروفة .

أمّا نيتشه فأمره أكثر تعقيدًا وإنْ كان سيصل إلى النتيجة نفسها، نظرًا لتعدد المداخل إلى فلسفته غير النسقية، ومنها المدخل الوضعي Positivisticالذي قدمه كامو في(الإنسان المتمرد)
[10](10)، وطبقًا لصورة (نيتشه-كامو) فالفيلسوف الألماني الثائر على قيم عصره لم يفعل أكثر من اكتشاف مغالطة منطقية وعلمية في صورة الأمر الأخلاقي(يجب عليك أنْ تفعل كذا)، هذه الصورة القياسية فاسدة لسببين:أولًا(منطقيًا) أنّ ذلك القول الإنشائي يفترض قولًا خبريًا هو(ما يجب أن يكون هو كذا)، و(ما يجب أن يكون) ليس كائنًا من كائنات العالم لذلك لا يمكن الربط المنطقي بين الموضوع والمحمول(المبتدإ والخبر في النحو)في الجملة، أي أنّ أداة الربط-فعل الكينونة في اللغات الغربية وضمير هو في هذه الصياغة-لا معنى لها هنا، وانطلاقًا من هذه النقطة يستبعد نيتشه هذا الموقف القيمي الذي يقوم على افتراض (ما يجب أن يكون) بوصفه خيرًا دون تقديم مبرر، "الخير هو الذي يحتاج إلى تبرير"[11] (11)، ويمكن تبسيط ذلك بأنه من غير المشروع في رأي نيتشه أن يُقال لك(لا تشرب الخمر) مثلًا، لأنك ستسأل:لماذا لا ؟، وسيُجاب السؤال عدةَ أنواع ومذاهب من الإجابات، يرفضها نيتشه جميعًا : منفعة المجتمع-الاتساق مع الوضع الطبيعي للحياة والعالم-الأمر الإلهي..، وستسأل أيضًا لماذا بالنسبة لكل إجابة، فلماذا عليك أن تنفع المجتمع مثلًا ؟ لماذا لا تنفع ذاتك فقط ؟ وقد تُجاب بأنك لو لم تنفع الآخرين فلن ينفعوك، وبالتالي تقل محصلة المنفعة بالنسبة لذاتك، ولكنك ستسأل: وماذا لو كنت أنا الأقوى ؟ عندئذٍ تصل على الأفق النيتشوي الشهير(الشهير كالأفق):الإنسان الأعلى Übermensch، ولن تحتاج بعد إلى نظريات القيمة وفلسفة الأخلاق، وسيكون هناك قانون واحد فحسب:كن أقوى، فإن لم تكن فلا تعطل الأقوياء من فضلك .

كان ذلك بصدد المغالطة الأولى المنطقية، أما المغالطة الثانية العلمية فأمرها أسهل، هي عدم وجود دليل علمي تجريبي في رأي نيتشه على وجود الإله، فينتفي في نظره الآمِر الخلقي من حيث الوجود، وبالتالي من حيث الفاعلية(مقولة موت الإله)
[12](12)، ويرى دولوز في بحثه عن نيتشه أن الأخير حين صرح بهذه المقولة كان يعارض التراث المسيحي أساسًا، ففي جدة العهد بعد الصلب يحدث الارتكاس Atavism، أي العودة إلى الأصل الخيّر الذي ظهر مرة واحدة في الماضي الزماني(تاريخ حياة المسيح في الأناجيل)، والماضي القيمي(الضمير الخلقي للمسيحيين)، وبكوْن الخير نموذجًا في الماضي تصير الحياة الخلقية للعالم المسيحي هي ذلك الارتكاس للماضي، بينما كان نيتشه ينظر إلى مركّب التفوق Superiority في المستقبل[13](13)، "إننا نرى إلى أين يريد نيتشه الوصول، كان المسيح نقيض ما صنع منه القديس بولس، كان المسيح الحقيقي على غرار بوذا، بوذا على أرضٍ غير هندية، كان متقدمًا جدًا بالنسبة لعصره، وفي بيئته كان يعلّم الحياةَ الارتكاسية كيف تموت بهدوء وتنطفئ بسلبية،...ما كان المسيح يهوديًا ولا نصرانيًا بل كان بوذيًا، أقرب إلى الدلاي لاما من البابا "[14] (14)، ويركّز دولوز على أن المعنى الجوهري لمقولة موت الإله ليس الإلحاد بل الانتقال من المستوى المجرد إلى المستوى الدرامي[15] (15)، هذا هو الجديد، أي أن التصور الإلهي (كان) موجودًا في نفوس البشر ثم انتهى بحلول عصر الثورة العلمانية وخروج الدولة من فناء الكنيسة، وكأن الأوروبيين يقتلون المسيح مرة ثانية[16](16) على مستوى أشمل وغير دافع للأسطرة (صناعة الأساطير) على الإطلاق، وكأن نيتشه هو الذي يسجل الإنجيل في المرحلة الحديثة والمعاصرة، ولكنه إنجيل الإنسان الواحد الكلّي اللامتناهي .

هناك عدة مداخل أخرى لفلسفة نيتشه كالمدخل البراجماتي والوجودي
[17](17)، ولكنها جميعًا تصل إلى منطقة العدم الخلقي ذاتها، إن لم يكن قانون، فكن أنت القانون، وإن لم يكن القانون(الله)موجودًا فكل شيء مباح(إيفان كارامازوف) .

هذه الحالة من العدمية الحديثة هي ما يناظر حالة تضارب القوانين والإرادات الإلهية لدى الإغريق قديمًا، هي منطقة تساوت فيها نتائج نفي وجود الإله مع نتائج تعدد الآلهة، كلاهما أدى إلى هذا الموقف العبثي الذي لا ثمن فيه للألم، في الوعي الأوروبي الحديث يقوم إلحاد إيفان كارامازوف وستاندال ونيتشه(في تفسيره الوجودي)على أساس أن الحقيقة لا تستحق كل هذا الألم البشري"إذا كانت آلام الأطفال أمرًا لا غنى عنه لإكمال مقدار الألم الذي سيكون فديةً للحقيقة فإنني أعلن جازمًا أن الحقيقة لا تستحق أن يُدفع ثمنها باهظًا إلى هذا الحد...إنني لا أريد الانسجام بل أرفضه حبًا في الإنسانية"
[18](18)، ولا يقوم على النفي الأصلي لوجود الإله من الناحية الفيزيقية، هو إذًا موقف قيمي يحاول أنْ يرد للبشر براءتهم الأصلية، ويحررهم من الخطيئة بالفلسفة لا بالدين، وبالإلحاد لا بالإيمان، "إنني لا أُجحد الربّ يا أليوشا، وإنما أقتصر على أنْ أُعيد له بطاقتي بكثير من الاحترام"[19](19)، ونتائج هذا الموقف من حيث النجاح والفشل هي موضع السؤال فيما يلي من أجزاء الدراسة، ولكن الألم العبثي الذي لا استحقاق له، والذي يدينه المفكر هنا إلى درجة الإلحاد هو أساس تراجيديا الجنس البشري، وتمجيد الألم عند دمتري كارامازوف وراسكولنيكوف وزرادشت هو ما يُناظر تمجيد الألم قديمًا في الأبطال التراجيديين، "كان راسكولنيكوف ما يزال يجهل أن هذه الحياة الجديدة لن تُوهب له من غير تضحية، وأن عليه أن يدفع ثمنها غاليًا ...، ولكن هنا تبدأ قصة أخرى، قصة إنسان تجدد شيئًا بعد شيء، قصة انبعاثه"[20](20)،"ما معنى الألم؟ إن معنى الوجود يتوقف عليه بكامله، إن للوجود معنى بقدر ما للألم من معنى في الوجود"[21] (21)، وهو موقف تراجيدي يتأسس على الموقف العبثي سالف الذكر بجميع أعمدته وجدرانه .

2-العنصر العبثي:
1-2 : حبكة مسرح العبث:
(التعبير عن لا معقولية الحياة، ولا معناها، ولا جدواها، ولا غائيتها عن طريق الطرح المباشر للنموذج المختار، واتخاذ طريق من اللامسرحة سبيلًا إلى التعبير عن اللامعنى في حياة الإنسان المعاصر).

ربما يمكن الوقوف على هذا التعريف لموضوعة المسرح العبثي على مستوى البنية، دون التطرّق إلى نشأته التاريخية، فأمّا(الطرح المباشر للنموذج)فبيانه أنه من الممكن دائمًا كتابة مسرحية(تتحدث عن)عبثية الحياة بدون أن تكون عبثية بالضرورة كمسرحية، فهي تواجه الجمهور بـ(معنى) العبث، ولا تترك له استنتاج هذا المعنى من اللامعنى الذي يراه على خشبة المسرح العبثي حين يتم طرح النموذج المختار طرحًا مباشرًا مفاجئًا دون تعليق، وأما(اتخاذ طريق من اللامسرحة سبيلًا إلى التعبير عن اللامعنى)فذلك أن مسرح العبث يمثل صدمة وانقلابًا يتعمّدهما إن لم يكن يتعمد ثورة على المسرح الكلاسيكي(وسترد مقارنة بينهما من بعض الزوايا)من حيث اللغة والصراع والشخص، وهذه الضد-مسرحية متعمّدة للتعبير عن الضد-معقولية في الحياة المعاصرة الواقعية، يمكن القول مؤقتًا أن الفرق بين المسرحين الكلاسيكي والعبثي في هذه النقطة كالفرق بين مسرحيتين على الترتيب : إحداهما تُمثّل بالشكل المعروف الذي يجلس فيه الجمهور قبالة الممثلين على الخشبة، والأخرى تُمثل حين يجلس الجمهور فلا يرى الخشبة بالمعنى التقليدي، بل نافذة أو مرآة .

2-2: الطابع التراجيدي للحبكة العبثية:
طبقًا لتعريف التراجيديا السابق فإن الصراع العبثي يتميّز بمذاق تراجيدي لاذع، وإن كان يبدو فحسب في أحد نوعي العبث دون الآخَر، فالعبث:ميتافيزيقي(ما ورائي)، ومجتمعي، الأول فكرة تقول أن وضع الإنسان كإنسان عبثي من الأصل، والثاني فكرة تقول بأن وضع إنسان بعينه في مجتمع متعيّن بحدود درامية أي:زمانية ومكانية وموضوعية هو العبثي نتيجة لفشل ما في الجهاز السوسيولوجي أو السيكولوجي غالبًا
[22] (22)، ومن ثم فالنوع الأصلي الميتافيزيقي من العبث هو الذي تنطبق عليه الملامح التراجيدية دون اشتباه، نظرًا لكونه ألمًا بلا مبرر أو استحقاق، صحيحٌ أنّ بطل المسرح العبثي ليس على قدر أهمية ومركزية و(بطولة)البطل التراجيدي الكلاسيكي، أحيانًا يبدو تافهًا، وستلي هذه النقطة حين المقارنة بين المسرحين، غير أن البطل العبثي ليس مذنبًا إلى هذا الحدّ، إلى حد السقوط المصيري إلى الضياع واللاتناهي-أو التناهي وكلاهما أسوأ-، ومن الهامّ ملاحظة أن البنية التحتية الفكرية المنتجة لهذا النوع من الأدب في الغرب كانت تنكر فكرة الخطيئة الأصلية Peccatum Originale جملةً وتفصيلًا، إمّا لاعتناقها أطروحة الوجودية الأولى القائلة بأسبقية الوجود على الماهية(أي:أن وجود الإنسان النفسي والاجتماعي والمادي يسبق التحديد الضروري لصفاته زمنيًا)، أو برفض الأطروحة المسيحية التقليدية القائلة بعكس ذلك، على أية حال كانت النتيجة واحدة .

إن الحبكة العبثية العنيفة في(الغريب)لكامو تُظهر ذلك الطابع، فالبطل يُعدم في النهاية لارتكابه جريمة القتل المتعمد، ولكن من الهام هنا توضيح دور الصدفة (بالنسبة لهذا البحث ولكامو أيضًا) فالبطل أطلق الرصاص تحت تأثير أشعة الشمس التي ضربت عينيه مباشرةً فأردى المجني عليه صريعًا، وعندما صرّح بهذا السبب حين طُلب منه الدفاع عن نفسه في المحكمة ضحك الجمهور في سخرية، يريد كامو القول بأن حال الإنسان عمومًا كحال هذا الرجل خلف القضبان لأي سبب إلا الخطيئة، سواء كانت مكتسبة (وهو ما تنفيه دراما كامو)، أو أصلية(وهو ما تنفيه فلسفته الوجودية) .

أما بالنسبة للفكر الغربي القديم فالناظر واجدٌ إياّه موضِّحًا ومؤصِّلًا لهذا الطابع، بل تتضح فيه العوامل المؤدية لذلك أيضًا .

فسقراط الأفلاطوني في محاورة أُطيفرون يحاجّ أُطيفرون بأن تعدد الآلهة لا يسمح بمفهوم موضوعي واحد عن التقوى، وهي التي يريد أطيفرون الشهادة ضد والده في المحكمة في سبيلها
[23](23)، فالاستشهاد ذاته عبث لا معنى له، برغم أنه قمة ما يمكن تقديمه من تضحية أخلاقية، فتعدد الآلهة ظاهرة مرصودة من حيث نتائجها القيمية:الأخلاقية والسياسية والحقوقية في الفكر الغربي القديم .

أما أرسطو فلم يكن مؤمنًا بالتعدد كأطيفرون(وليس كسقراط أو أفلاطون الذين كانا موحِّدين Monotheists غالبًا)، ولم يكن منكرًا لوجود الإله(المحرّك الأول الذي لا يتحرك)، بل كان مؤمنًا ومبرهِنًا على وجوده بدليل الحركة Kinesis، وهو من أقوى الأدلة على وجود الإله إن لم يكن أقواها على الإطلاق، لكنه كان منكرًا للعناية الإلهيةProvidence، وهي اكتراث الإله بأفعال المخلوقات وصلواتهم ودعائهم
[24](24)، وهو ما يمكن التعبير عنه بالتصور الإلهي المحفوظ في(تِرْمُس)معزولًا عن العالم في وحدة لا متناهية، عقلًا وعاقلًا ومعقولًا، ومن هنا تمركزت نظريته الأخلاقية حول مفهوم السعادة[25](25)، والغريب أن عددًا من فلاسفة الإسلام قد تبعه في تأسيس الأخلاق على هذا المفهوم .

ومن الاتساق المنطقي ملاحظة أن هذه النظرية يمكن لها أن تتحوّل بسهولة حديثًا إلى تأليه الإنسان عند نيتشه، ما دام المعيار هو كل ما يجعلك أسعد/أقوى، مثلما أدتْ أَنْسَنَة الآلهة Humanization of Gods عند أطيفرون قديمًا(تعددها وطبيعتها البشرية)إلى عبثية موقف التضحية .

وإذًا يمكن رسم ذلك الخط التجريدي الممتد من أرسطو إلى نيتشه مرورًا بشوبنهور طبقًا لمركزية فكرة لا غرضية الإله أو لا وجوده، فكلاهما يؤدي إلى النتيجة نفسها، وهي أن العالم آلة عمياء لا يكترث لها الإله(أرسطو)، وهو ما قد يؤدي إلى خروج الإله من الآلة Deus Ex Machina(نيتشه)، وما يؤدي إلى التصور العبثي للحياة والعواطف والفنون والمساعي البشرية بعامّة(شوبنهور) .

الأهم من ذلك أنه بالإمكان أيضًا رسم خط مباشر بين المركّب التراجيدي-العبثي من جهة، والمركّب الإلهي-الإنساني من جهة أخرى بناء على ما سبق .

إذًا فالظواهر العبثية في الفكر الأوروبي قديمة وحديثه متأصّلة في أساس عقائدي يتعلق بالشرك أو بالإلحاد النسبي أو المطلق من جهة الإلهي، ويتعلق بانعدام مسؤولية الإنسان عن هذه الفوضَى والعماء من جهة الإنساني، وينتج من هذا الموقفًُ التراجيدي، الذي تمثل قديمًا في التراجيديات الغربية مرتبطًا بالعبث، وحديثًا في مسرح العبث المعاصر مرتبطًا بطابعه التراجيدي، وهو ما يدفع إلى مناقشة المنشإ العقائدي للمركب التراجيدي-العبثي مباشرةً، فيما يلي .

3- المنشأ العقائدي للمركب التراجيدي-العبثي:
تنقسم العوامل العقائدية والاجتماعية والمعرفية المؤدية إلى تكوين هذا المركب إلى عوامل أدت إلى تكونه قديمًا(عصر الفلسفة اليونانية قديمًا)، وعوامل أدت إلى ظهوره حديثًا(عصر الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة)، ويبدو أن هذه الأسباب اختلفت بين المرحلتين لاختلاف هام جدًا في البنية المعرفية بينهما، ألا وهو ازدهار منهج العلم الطبيعي الحديث، وربما كان هناك تشابه ما في العوامل السياسية والاجتماعية غير أن التركيز غالبًا سيكون على المرحلة المعاصرة(1900-2000م) عند الحديث عن هذا النوع من العوامل لقربها التاريخي النسبي واستمرار تأثيرها المباشر إلى المرحلة الحاضرة(الفلسفة الجارية Current) .

ورغم التعرض فيما يلي لعدة أنواع من العوامل إلا أنها جميعًا مُجْمَلَة تحت عنوان المنشإ العقائدي نظرًا لأن (الشعور) الذي اختبر هذا المركب موضوع الدراسة ناتج عن أزمة عقائدية، هذه الأزمة بدورها هي الناتجة عن هذه العوامل المتعددة .

فالبنسبة لمرحلة الفكر القديم الذي أنتج التراجيديات الكبرى يمكن وصف عدة ظواهر عقائدية كانت أسبابًا لهذا الطابع العبثي للتراجيديا، وهو الطابع المسئول عن كونها تراجيديا بالمعنى الاصطلاحي كما سلف، أهمها تعدد الآلهة في الدين التراتبيHierarchical religion، كما وضح في محاروة أفلاطون السابقة، فأفلاطون ينكر موضوعية القيم الأخلاقية والدينية اعتمادًا على صراع الآلهة، كذلك التشكُّل الإنساني للآلهة Anthropomorphosis of Gods في الأديان القديمة، والتي صوّرتْ الآلهة في صورة السوبرمان لا أكثر، غير أنها لا تموت، مما صوّر الكون كله حول وعي الإغريقي القديم على هيئة عاصفة مخيفة، لا ثبات فيها لقانون، ولا أمل فيها في عدالة، أمّا الظاهرة الثالثة فهي انعدام العناية الإلهية لدى بعض المفكرين، وأهمهم أرسطو، فالتصور الإلهي بالنسبة إليه عزلة معرفية وأخلاقية وفيزيقية وميتافيزيقية بعيدًا عن العالم، مما قطع آخر أمل في موضوعية القانون، وفي وجود عهد بين الآلهة والبشر يحفظ حقوقهم، وهو ما أهدر حقوق البشر قبل أن يولدوا، وقبل أن يوجدوا، في التصور الغربي القديم .

أما بالنسبة لعودة العبث للظهور في الفترة الحديثة المعاصرة فيمكن تقسيمها إلى أسباب فيزيقية، وأسباب ميتافيزيقية، وقد تم التركيز على الأسباب الميتافيزيقية وحدها عند الحديث عن الفترة القديمة، أما بعد نشأة المنهج، واعتماده، وتحقيقه للنجاح الغربي المعرفي الباهر فقد صار مؤثِّرًا قاهرًا على جميع النواحي العقدية الغربية، ويمكن إجمال القول في ذلك وتفصيله :

فأما إجماله فهو أنَّ (تعوُّد) الإنسان الغربي على التفكير بمنطق سببي يرد كل الظواهر إلى أسباب سابقة الحدوث في الزمان، أو سابقة الموضع في المكان أثّر على سيكولوجيته، فصار أقل ميلًا إلى الاعتقاد في وجود إله، وإنْ اعتقد فيه صار أقل اعتقادًا في عنايته به، وإن صار أكثر اعتقادًا في عنايته به صار هو أقل اعتقادًا في عنايته هو به، كمفهوم وحق ومصدر للقيمة، وهي ظاهرة رصدها المفكّر الإنجليزي سير ولتر ستيس W. T. Stace (1886-1967) الذي حجبته الصهيونية عن الاهتمام العالمي الذي يستحقّه، عامةً أرجع ستيس هذه الظاهرة إلى تلك العوامل السيكولوجية، ولاحظَ أن الاعتقاد في وجود الإله وغائية العالم لا يتعارض مع الاعتقاد في السببية، أي أن الفصل بين الطرفين كان سيكولوجيًا لا منطقيًا
[26](26)، وهو ما يُسمّى بالتصور الملتئم عن الكون، أي: التصور الطبيعي الذي لا يدع مجالًًا لثغرة يتسلل مفهوم وجود الإله وفاعليته في الطبيعة منها، نظرًا للاكتفاء الذاتي الذي لقوانين الطبيعة الحتمية من جهة، والقصور الذاتي الذي للمادة من جهة ثانية، والاكتفاء بهذه المعادلة : القانون+المادة=كل شيء، من جهة ثالثة .

وأما تفصيله : فهو عدد من الاكتشافات العلمية بغض النظر عن مدى صحتها، التعامل هنا مع صفتها العلمية، والتي أثرت على النظرة الكلية للطبيعة من المنظور الغربي الحديث والمعاصر، هذه الاكتشافات لم تكن اكتشافات تجريبية محدودة، وإنما غيّرت نموذج العلم الحديث كلية في عدة مجالات .

أهمها بالطبع_وربما أسبقها_نظرية كوبرنيقوس عن مركزية الشمس، ولا مركزية الإنسان، فشعر الإنسان الغربي الحديث بصدمة هائلة أدت إلى اعتقال وتعذيب وإعدام المئات، وهي لم تكن أزمة دينية بقدر ما كانت أزمة نفسية، أي أن الاصطدام بهذه النظرية لم يكن لتعارضها مع التصور الديني المقدس الإلهي، بل لتعارضها مع التصور السيكولوجي الذاتي الإنساني، إننا حين نقلل من مركزية الإنسان الطبيعية نقلل منها سيكولوجيًا وعقديًا، وبالتالي يفقد المجتمع الغربي استقراره القيمي الذي كان يتناسب طرديًا مع استقرار موقع الإنسان الطبيعي الذي كرّمه الله به في مركز الكون، فعاد الشعور بالعبثية تدريجيًا بعد بيات قروسطي طويل .

لم يكد يندمل هذا الجرح حتى قدّم تشارلز دارون نظريته عن أصل الأنواع(1859م)، وتسلسل الإنسان(1871م) وبدأ الإنسان الغربي يعرف أنه لم يهبط من جنة عدن، بل من مؤخرة قرد، وصار الإنسان ينظر لذاته كامتداد للحيوان، وبرغم أن دارون اعترف برقي الإنسان عن سائر الحيوان بالوعي الأخلاقي(1871م)
[27] (27)، فإنه من الممكن فهم كيف أن معرضة نظريته جاءت على هذا القدر من الاشمئزاز الديني والخلقي[28](28)، لكنها اكتسبتْ أنصارًا متزايدين مع حماسة المجتمع الغربي للعلم الطبيعي كأيديولوجيا، وليس فقط كمنهج أو نظرية أو تقانة، أهمهم كان كارل ماركس(1818-1883م)شخصيًا الذي أهدَى كتابه الأشهر رأس المال إلى دارون، ومن المعلوم أن دارون رفض إهداء ماركس بسبب إلحاد الأخير، غير أن الهامّ هنا ملاحظة التغير العقائدي الذي طرأ على العقلية الغربية الحديثة من أثر انتشار نظرية تشارك في القضاء على قداسة الإنسان، إن كوبرنيقوس قضى بشكل ما على قداسة الإنسان السماوية، وحفظ له قداسته في نفسه كمخلوق سامٍ مملكته ليست من هذا العالم، لكن دارون قضى حتى على قداسة الإنسان في نفسه وأدرجه ضمن شعب المملكة الحيوانية .

صاحبتْ الموجة التطوّرية Evolutionism موجةٌ أخرى من النقد الأخلاقي المباشر، وخطورتها في مباشرتها، فالنتائج الأخلاقية التي ترتبت على النظريتين السابقتين جاءت غير مباشرة، أما موجة النقد الأخلاقي بقيادة فريدريك نيتشه(1844-1900م)فجاءت ضربة في الصميم، يرى نيتشه على الإجمال أن القيم الأخلاقية التقليدية خطاب زائف يجب أن يُنظر له على ضوء تفسيرية الارتياب Hermeneutics of Suspension (بتعبير بول ريكور)، فهو يخفي أسفله لاشيء إلا صراع القوَى الرهيب، الخير هو مصلحة الأقوَى، برغم أننا نظنه الأفضل أو الأشرف أو المشروع دينيًا، وهو من جهة أخرى مصلحة الأضعف الذي حاول أن يستقوى وفشل، فصار يحارب الأقوى بالقيم والوعظ الإرشادي القائم على أساس أن الفقراء والمساكين يدخلون الجنة، ومن الهامّ في هذه النقطة أن يتضح أن الطرف المناقض لنيتشه والمعاصر له(ماركس)قدم النقد نفسه للأخلاق السائدة بشكل مختلف، بدلًا من صراع القوى يجد ماركس في الصراع الطبقي مصدرًا للصراع الفوق-بنيوي Super-structural، أي على مستوى القيم والمذاهب والعقائد والفنون...إلخ .

ثم قدم فرويد نظريته عن اللاوعي، وكيف أنه البنية التحتية للنفس البشرية، والنتائج القيمية السلبية المترتبة على هذه النظرية مرصودة من المنظور الغربي قبل سواه، المهم أنها جاءت لتأتي تقريبًا على ما تم استنقاذه من أيدي نيتشه وماركس الناعمة نعومة إكلينيكية معقَّمة .

أما الضربة الكبرى التي غيّرت وجه العلم حقًا ويعرفها كل المتخصصين في فلسفة العلوم ومناهج البحث فهي نظرية الكوانتم Quantum- 1900، والنسبية العامة( GTR -(1915 وكل منهما على وجه الإجمال قضت على الثبات واليقين المعرفي الذي ساد الحقبة العلمية السابقة، كان العلم الحديث جاء باليقين العلمي ليزلزل البنية القيمية ثم رحل بعد زلزالها، ففقد المجتمع الغربي الموضوعية القيمية واليقين العلمي كليهما .

وبعد تفصيل الجانب الفيزيقي-العلمي يمكن فهم الجوانب الميتافيزيقية، والتي تتلخص في الشك في وجود الإله أو عنايته، والذي وصل إلى الإلحاد المطلق أحيانًا وزلزلة موضوعية القيم، وهو شك وإنكار قائم على الأسباب الموضحة أعلاه أساسًا .

غير أن القيم قد تقوم على الإلزام العقلي الصارم(كانط)، أو على المنفعة الاجتماعية أو الطبقية العامة(جيرمي بنتام، وجون ستيوارت مِل، والماركسيين بشكل ما)، أو على الرغبة في تحقيق الذات والتفوّق(نيتشه والوجوديين)، أو على خبرة ذاتية لا دينية(ستيس)، وقد تكون هذه المذاهب هي الملاذ الأخير للأخلاق بعد سقوط سقف العقيدة، ولكن السقف الإنساني أيضًا-والذي كان يمكن له أن يحتوي القيم بشكل علماني لا ديني في الغرب-هوى بأسرع مما هوى السقف الديني القديم، وذلك لعوامل سياسية واجتماعية، ففشل المشروع التنويري الغربي الذي بدأ في القرن 18، وتحوله إلى مشروع استشراقي-استعماري في القرن19 صار واقعًا، كما أن المشروع الليبرالي(بنتام ومل)بات لا يخدم سوى المصالح السياسية المحدودة بحدود مجتمعه على حساب المجتمعات الأخرى، وكذلك المشروع الاشتراكي الذي تمخض عن آلة اجتماعية سياسية إرهابية عملاقة في ظل السياسة الداخلية الشمولية التي أنتجت طبقية من نوع جديد سياسي لا اقتصادي، ثم جاءت قيم التفوق وتحقيق الذات الوجودية لتخلق وحشًا مثل هتلر والنازية، يحاربه وحش آميركي يهودي نووي يقتل الأطفال بالقنبلة الذرية، فانتهى المشروع الأخلاقي الثالث، أما المشروع الرابع الصوفي اللاديني(ستيس)فقد نجح جزئيًا على مستوى الفرد كمشروع للرهبنة والفرار الرأسي، مفتقدًا أية آلية للعمل الاجتماعي، فانحصرت القيم الغربية في نهاية النهاية في هذا المشروع الضيق جدًا، وهؤلاء الأفراد المتناثرين القليلين جدًا جدًا، وقد ارتبط كل هذا كما هو معلوم بواقع الغرب إبان النصف الأول من القرن المنصرم متضمنًا الحربين العالميتين ونتائجهما الاجتماعية والنفسية والمعرفية والسياسية .

لكل هذا جاء أدب العبث التعبير الأصدق والنقد الأوقع لحال مجتمعه حين أكّد على فراغ العالم حول الإنسان الفرد، وتلاشِي الديكور الذي يتضح أنه مجرد ديكور، كما في (مسرحية هذا الحان العجيب) ليونسكو، وذلك يتضح عند الحديث عن عناصر المسرح الأساسية في المسرحَين، حين يظهر استفحال تأثير هذه العوامل السابقة على تلك العناصر كلما (تقدمَ) المجتمع الغربي، كما يلي .

4-العناصر المسرحية بين الإنسانيّ والديكوريّ :
نتيجة لشعور الإنسان الغربي بتضاؤل العنصر الإنساني أمام الطبيعة، أو الآلة الاجتماعية، أو التشكُّل الإلهي لبعض البشر Theomorphosis، تعاظم شأن الديكور على حساب الوجود الإنساني، وصار المعنَى، والحدَث، والشخص نفسه مجرد ديكور يمكن الاستغناء عنه، وذلك يظهر في مقارنة تالية بين المسرح التراجيدي الكلاسيكي والعبثي من هذه الزوايا :

1-4 : اللغة:
كانت اللغة عنصرًا هامًا جدًا بلا شك في تنظير أرسطو العمدة للتراجيديا، وهي من العناصر الستة للتراجيديا في كتاب الشعر الأرسطي، ولكنها اقتصرت على لعب دور وسيلة التوصيل المنمّقة المنظومة "لغة مشفوعة بألوان من التزيين" .

أما في المسرح العبثي فقد تعاظم شأن اللغة كثيرًا على حساب الحدَث، مرتبطًا في ذلك بارتفاع شأن اللفظ على المعنى، فصارت اللغة هي خشبة المسرح، إن تضاؤل المعنى ودور المعنى في الصياغة المسرحية يُكسب اللغة أهمية ومركزية غير مسبوقة بين كل عناصر البناء، مسرحية (تدريبات في اللغة الفرنسية في الإلقاء والمحادثة للطلاب الأمريكان) ليونسكو مثلًا ليس فيها غير محادثات(ديالوجات)فقط دون محتوَى، أي أن الحوار المسرحي صار هو المسرحية ذاتها .

والأساس في هذه النقطة أن الظاهرة العبثية المتعاظمة حديثًا طالت اللغة ففرغتها من المعنى في الواقع الاجتماعي المعيش، فصار اللفظ هو الأبرز والأظهر والأهم، مما يُلقي الضوء على نظرة مثقفي الغرب-أو بعضهم على الأقل-إلى الخطاب السياسي والديني بوجهٍ خاصّ .

2-4 : الحدث:
قلَّ شأن الحدث بالمعنى التقليدي لحساب اللغة كما تقدم، وربما تلاشَى الحدث كليةً كما في مثال يونسكو السابق(تدريبات..)، ولكن يمكن القول أن الفارق لم يكن كميًا فقط في الحدث على مستوَى المسرحين، بل صار كيفيًا أيضًا، فالحدث لم يعد يتضمن التمهيد للشعور بالتعاطف مع البطل والشفقة عليه والخوف من أن نكون هو كما نص تنظير أرسطو، بل صار يمهد للثورة على البطل وضدّه لأننا هو فعلًا، أي أن الحدث صار خارجيًا وسقط الحائط الرابع، وصار المسرح أكثر واقعية وتكثيفًا وشمولًا في نظرته إلى الخارج المجتمعي والإنساني .

3-4 : الشخص:
يصير البطل أكثر تسطيحًا وتفاهةً، ربما يصير نكرة، إن التبديل في تسمية البطلين(جان-ماري) و(ماري-جان) في (تدريبات..) لا يعكس سوى هذا، صار الشخص ككل شخص، الشخص كذلك يظهر بلا فعل أو انفعال في (هذا الحان العجيب)لأن الانفعال أساس الفعل، في حين تُسحب الديكورات من حوله تدريجيًا، الشخص صار مجرد ضمير في اللغة مثل)هو) و(هي) في (تخريف ثنائي)ليونسكو، وهو شخص تجده عرَضًا في أي بيت: (الزوج) و(الزوجة) في(الكراسي)ليونسكو أيضًا، بينما ينداح من حوله الفراغ المظلم الهائل باستمرار، فراغ خشبة المسرح في (هذا الحان العجيب)، وفراغ الألفاظ في (تدريبات)، وفراغ العقول في (تخريف)، وفراغ الكراسي في (الكراسي) .

الشخص كذلك لم يعد أسطوريًا لأن الإنسان لم يعد أسطورة، صار شخصًا عاديًا يرتدي القميص والبنطال ويعاني البطالة ويدخل الحمّام، ولم يعد مصير البشرية متوقفًا على قدرة أمعائه على الاحتفاظ بالضغط الأُسموزي لكي لا يُصاب بالإمساك، وربما حتى الإله لا يهتم به(مفهوم الهَجْر السارتري l’abandon)، وربما كان حظ البطل التراجيدي الملعون أفضل، على الأقل تكشف ظاهرة اللعن عن اهتمام ما، طبعًا الواضح الآن أن العكس هو الصحيح، البطل العبثي-المواطن الغربي-هو الذي صار لا يهتمّ بالإله ولا بالإنسان وليس العكس .

5- خاتمة : الأزمة العقائدية الغربية في ضوء المركّب الإلهي_الإنساني:

لم تكن العصور الوسطى فترة ازدهار حضاري كما يعلم الغربيون قبل غيرهم، صحيح أنها المرحلة الوحيدة في حياة الغرب التي احتفظت باستقرار نسبي للقيم، إلا أنها حافظت على هذا الاستقرار بتحويل الحقبة الوسيطة كلها إلى محكمة تفتيش كبرى تحكم على الحقبة القديمة بالكفر والوثنية والضلال، وتسجن الحقبة الحديثة خلف قضبان السجون كيلا يتملص منها عصر النهضة، النتيجة أن المشروع الحضاري الغربي عبارة عن علامة استفهام كبيرة بلا إجابة .

إن المشروع الحضاري الغربي لم ينته-على نقيض رؤية أستاذنا الدكتور حسن حنفي
[29](29)-وربما لن يفعل في القريب، إن مَن ينظر إلى المعمار الفني الهائل في السينما الأمريكية مثلًا يفهم هذا، وتأثير الغرب الحضاري امتد إلى اليابان نفسها وحاصر الصين .

صحيح أن المشروع الغربي لم ينته، لكن يمكن القول أنه قد فشل في تحقيق أهدافه التنويرية الإنسانية التقدمية بفشله في حل مشكلة تفكك القيم في داخله هو، وليست المشكلة موضوع الرصد هنا علمانية القيم(بعد انهيار أساسها الديني)، فقد قال المعتزلة بهذا المبدإ قديمًا في الحضارة الإسلامية، ولكن المشكلة فشل المشروع القيمي بعودة المركّب الإلهي-الإنساني مرة أخرى للظهور، بإعادة إنتاجه حديثًا بالتشكّل الإلهي للبشر Theomorphosis، بعد أن أُنتج قديمًا بالتشكل الإنساني للآلهة Anthropomorphosis، وذلك بظهور بونابرت وهتلر وستالين وترومان وبوش بدلًا من زيوس وآرس وبوسيدون وهيرا وهيدس، في دين-أو لا دين-شركي تراتبي جديد .

وإن عبثية التراجيديا وتراجيدية العبث تمثُّلٌ وتمثيلٌ تبادليين للمركب نفسه قديمًا وحديثًا، في الشعور والوعي النظري والإبداع الأدبي الغربي .

تلك الأزمة الغربية قد امتدّ صداها إلى الشرق الجغرافي، فقد تأثّر عدد من أدباء العرب مثلًا بأدب العبث، وبمذاهب الفكر العبثي، وقدموا التراجيديا الإنسانية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن التأثر بمركبات الفكر والإبداع الغربي ظاهرة عالمية لا تعكس خصوصية حضارية كعلة من علل التأثر المحلي، إن الأزمة شرقًا تُخلَق خلقًا، ثم يتم التعبير عنها أدبيًا ونظريًا بهدف التجديد أولًا، وبهدف مزامنة الغرب-الحداثة إبداعيًا وفكريًا ثانيًا .

صحيح أن هناك وعيًا بظواهر عبثية في الحضارة الإسلامية بالمعنى غير الجغرافي، لكنه وعي بالعبثية المجتمعية، لا الميتافيزيقية، الفكرة ليست أن الله غير موجود، أو أنه لا يعتني بالبشر، أو أنه متعدد، بل لأن النظام السياسي قائم، ولا يعتني إلا ببقائه، وهو واحد لا يتعدد، ليست افتقاد العدالة الإلهية، بل افتقاد العدالة الإنسانية، افتقادها داخل المجتمع الإسلامي وفي ذلك العالم الذي شكَّله الغرب الحديث ويُسئَل عنه .


الهوامش:
ـــــــــــــــــ
[1] أرسطو:الشعر، نقلًا عن: أميرة حلمي مطر:فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002م، ص89 .
[2] محمد غنيمي هلال:النقد الأدبي الحديث.
[3] أميرة حلمي مطر، السابق، ص52-53.
[4] المرجع السابق، ص181 .
[5] المرجع السابق، ص187-189 .
[6] نادية البنهاوي: بذور العبث في التراجيديا الإغريقية وأثرها على مسرح العبث المعاصر في الغرب وفي مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م .
[7] المرجع السابق .
[8] المرجع السابق .
[9] عبد الرحمن بدوي:شوبنهور .
[10] كامو: الإنسان المتمرد، ت: نهاد رضا، دار عويدات، بيروت، 1983م، ط3، ص 85- 104 .
[11] السابق: ص 88 .
[12] نيتشه:هكذا تكلم زرادشت، ت:فليكس فارس، منشورات المكتب العالمي للطباعة والنشر، بيروت لبنان، د.ت، د.ط، ص29 .
[13] دولوز:نيتشه والفلسفة، ت:أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2001م، ط2، ص197 .
[14] السابق:ص200 .
[15] السابق:ص195 .
[16] السابق:ص199 .
[17] انظر مثلًا :فؤاد زكريا:نيتشه، دار المعارف، القاهرة، ط3، د.ت .
[18] دوستويفسكي:الأخوة كارامازوف، م1، ت:سامي الدروبي، دار رادوجا، موسكو، الاتحاد السوفييتي، 1988، د.ط، ص519 .
[19] السابق:ص520 .
[20] دوستويفسكي:الجريمة والعقاب، م2، ت:سامي الدروبي، دار رادوجا، موسكو، الاتحاد السوفييتي، 1989، د.ط، ص488،489 .
[21] نيتشه:نقلًا عن جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص166 .
[22] أنظر دراستنا عن ديوان الشاعر عادل محمد:الظاهرة السيزيفية في ديوان تعودْ أنْ تموت، قُدمتْ في مناقشة الديوان بساقية الصاوي، سبتمبر2007، ومنشورة على موقع مدارات(www.madarat.info)، وموقع رابطة نون للثقافة والحوار(www.adabhome.com) .
[23] أفلاطون:أُطيفرون، ت عن الإنجليزية:د.زكي نجيب محمود، بعنوان محاورات أفلاطون، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
[24] د.مصطفى النشار:أرسطوطاليس، حياته وفلسفته .
[25] أرسطو:الأخلاق إلى نيقوماخوس، ت عن الفرنسية:أحمد لطفي السيد، وعن الأصل اليوناني:بارتلمي سانتهيلير .
[26] ولتر ستيس:الدين والعقل الحديث، ت:إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998م، ط1، ص23.
[27] إرنست ماير:هذا هو علم البيولوجيا، ت:عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، 277، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2002، د.ط، ص276 .
[28] جون هرمان راندال:تكوين العقل الحديث، ج2، ت:جورج طعمة، مراجعة:برهان الدين الدجاني، دار الثقافة، بيروت، د.ت، د.ط، ص225 .
[29] أنظر له مثلًا:التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2002، ط5، ص183 .

0 Comments: