29.6.08
التحقتُ بكلية طب قصر العيني(جامعة القاهرة المأسوف عليها)عام 1999-2000م، وكنت من متفوقي الثانوية العامة بطبيعة الحال، وبعدها بعامين قمت بتحويل أوراقي إلى كلية الآداب-قسم الفلسفة، مثلما ترك الزميل أحمد حمدي كلية العلوم إلى الكلية نفسها والقسم نفسه، ولكنْ لأسباب مختلفة...
إن دراسة الطب-أو على وجه الدقة العلوم الطبية الأكاديمية من فيزيولوجي وتشريح ..إلخ-من أمتع أنواع الدراسة وأكثرها جذبًا، وأذكر أن أجمل لحظات دراستي في الطب كانت في المشرحة بين الجثث بلا مبالغة، كنتُ أتظاهر بالقرف لكي أبدو أمام الأصدقاء آدميًا، لكنني كنت مستمتعًا بالاطلاع على الطبيعة البشرية لهذه الدرجة، وكنت أفتخر بما أدرس من فيزيولوجيا الجسم البشري وتشريحه وهستولوجيته(علم أنسجته) وكيميائه الحيوية، وأعتبر نفسي قاب قوسين أو أدنى من الروح ذاتها.
لكن حكايتي مع الفلسفة كانت أسبق بكثير، أذكر أنني كتبت مقالًا هو أول مقال لي في الفلسفة في سن الرابعة عشرة( صيف عام 1996)، وكان بهذا العنوان"حكايتي مع الفلسفة"وكانت فكرته الأساسية أن أقوال الفلاسفة متناقضة، وأن علينا أن نختبر كلًا منها في هدوء وتأنٍ، وأن الفلسفة ليست هبة سماوية بل بؤسًا أرضيًا، وأنه لا يوجد طقس للتفلسف خيرٌ من المعاناة والألم، وأن فائدة الألم هي الإبداع والكتابة(كنت أكتب قصصًا وشعرًا وروايات في هذه السن أيضًا)، وأن ضجيج الجيران وضوضاء الشارع بما تحمله من معاناة وتحدٍ لملكة الإبداع والحلم أفضل من الهدوء والدعة والجنة ذاتها، وهكذا اخترت طريقي إلى الجحيم..هذا موضوع يطول شرحه، قد نتحدث في موضوع الجحيم هذا لاحقًا، ليس الآن.
كنت أقرأ لأفلاطون وعن سقراط(الذي لم يترك كتبًا)وعن أوغسطين وأنسلم وتوماس الأكويني وسكوت أريجينا وسارتر ونيتشه وكانط وهيجل وماركس وعباس العقاد وغيرهم قبل أن ألتحق بالطب، أي قبل أن أكمل السابعة عشرة، وبالطبع بدأت بالقراءة عن.. قبل أن أبدأ بالقراءة لـ..، وقد انبهرت مبكرًا(في سن الخامسة عشرة)بالنازيين والشيوعيين على الأخصّ، أي أنني انبهرت بمن غيروا العالم لا بمن فسروه، وظللت منبهرًا بهؤلاء الذين غيروا الخرائط والتاريخ بكتب تحمل بضع مئات من الصفحات، وكان أصدقائي وأخواي ومن عرفت من الأتراب يميلون إلى الدين حين تنتابهم نوبات الجدية والتفكير في المصير، لكنني كنت أفضّل الطريق الصاعد، أن تبدع أفكارك ومبادئك ومذهبك وأخلاقك ونظريتك السياسية، وأن تتمسك بها، وأن تتحكم في مصيرك بكل هذا، وكنت شديد الثقة في العقل-أكثر مما أنا عليه الآن في الواقع-وفي العلم والموضوعية مع تأثري بفلسفات الإرادة الألمانية: الإرادة الخيرة، الإرادة العقلية، إرادة الحياة، إرادة القوة، وانفتحتُ على عالم الفلسفة الوجودية، وتصورت كيف يمكن للمفكر الوجودي أن يكون مصلحًا عَلمانيًا يقوّم شعبه ويوحده بغض النظر عن دينه، وكيف أمكن للروح الوجودية(في الحركة النازية)أن توحد شعبًا ليأخذ حقه ويذل من ذله، وما زلتُ أعتبر النازيين آخر الرجال على سطح الأرض حتى الآن، لم يتركوا خلفهم سوى النساء والأطفال ليذبحوهم الأمريكان والصهاينة ودعاة العولمة ورجال المال والأعمال.
وكان وما يزال الأدب بالنسبة لي مجالًا للتعبير عن الفكر، أو فلنقلْ أنه مجال من مجالات تحقق الفكر وتجلّيه، لهذا تضافر اهتمامي بالأدب إبداعًا ونقدًا وتذوقًا مع اهتمامي بالفلسفة، فصممتُ على التحويل من كلية الطب إلى كلية الآداب، وكنت على ثقة من أنني سأكون الأول على الدفعة وأنني سأُعين معيدًا، وكان أملي أن أقف ذات يوم لأشرح للشباب أفكاري وأفكار الآخرين، وأن أدفعهم للنقد بجرأة بدون رقابة أو قداسة أو خوف، وأن أقيم أبحاثهم ورؤاهم البدائية وأقوّمها، ولم آخذ قرار التحويل بسبب الاعتراضات العائلية إلا بعد عامين، درستُ فيهما العلوم الطبية سالفة الذكر، وضربت الحائط بكل الاعتراضات بعد أن تأكّد لي أن مصيري إلى الفلسفة والأدب، وربما يكون مصير الأدب والفلسفة لي.
في كلية الآداب حققت تفوقًا ربما لم يحققه طالب في الجامعة المصرية، كنت أقدم أبحاثًا تحمل أفكارًا ناضجة من الترم الأول لي بالسنة الأولى، وكان بعض الأساتذة يرفض مناقشة أبحاثي علانية بسبب أفكارها التي هي فوق مستوى هذه المرحلة الدراسية(على حد تعبيرهم)، وبدأت نشر أبحاثي العلمية في دوريات علمية كمجلة "أوراق فلسفية" المصرية في السنة الثالثة، وبالطبع غرقت في إحساس عظيم بالنشوة والتفوق، وبدأت أفهم أن الهدف من الحياة بالنسبة لي هو نشوة التفوق وتجاوز الذات(التفوق على الذات)، وكان لي نفوذ غريب في القسم، بعض الأساتذة تشاجرتُ معهم علنًا وبصوت مرتفع وأمام الطلبة وكنت طالباً في الليسانس ما أزال ورفضتُ قطعيًا مصالحتهم لأنهم هم المخطئون(حسب تعبيري ساعتئذٍ)، وهو سلوك خطير جدًا بالنسبة لطالب يريد أن يُعين معيدًا، وكان الأساتذة هم الذين يتركون المحاضرات بسبب حدتي عليهم، المرة الوحيدة التي طُردتُ فيها من المحاضرة كان بسبب نظرية التطور الأحيائي لدارون، حيث سأل الأستاذ عن رأينا فيها، فقمت وأجبت بأن علماء البيولوجيا المتخصصين وحدهم هم أهل الفتوى في هذا الشأن، وليس نحن ولا أي مسيخ دجال من رجال الدين يدعي العلم بما لا يفقه، وأكّدتُ على حقيقة أن النص القرآني في مسألة خلق الإنسان قابل للتأويل، فطقطق زملائي بألسنتهم رفضًا وطلب منّي الأستاذ أن أترك المدرج، فجلستُ مكاني ولم أتركه، ثم وجهتُ للأستاذ ذاته شكوى من هذا الموقف، فوعدني ألا يتكرر هذا، وفي العام التالي شكوته أيضًا فصعق لأنه نسي الموقف ثم تذكر التفاصيل واندهش كيف فعل هذا أصلًا !!
الحقيقة أنني كنت أعتبر أن الأستاذ الذي لا يعطيني امتيازًا إما لا يقرأ أوراق الإجابة أو لا يفهم في الفلسفة، وهذا غرور، نعم ! من قال أنني لست مغرورًا ؟! هل أوحى كلامي من قريب أو من بعيد بقيمة التواضع؟ لكنني لست كاذبًا والحقيقة أثمن من الخير.
هذه مجرد مقدمة عن التجربة، فما زلتُ أتأملها من بُعد بَعد تعييني في الجامعة وإصداري لديوان شعر ثم كتاب في الفلسفة بالتحرير والمشاركة، وللحديث بقية، ونهاية.
1 Comment:
الكلام عن التجربة الإنسانية في الاختيار
يبدو ممتعاً جداً
المشرحة وتصنع القرف كي يصدق الآخرون أنك تشبههم بالرغم من استمتاعك السرى والخبيء بالاقتراب من الحقيقة
مدهشٌ جداً هذا الوصف العميق لطبيعة الاختلاف
التعلق بالفلسفة وبصنع الذات بطريقةٍ يدوية بعيداً عن القوالب يبدو غريباً عن هذا العالم الذي تبدو كل الأشياء به سابقة التجهيز
التعالي على الألم البشري وإعادة توجيهه داخل نسقٍ آخر ليصبح وقود الإبداع تبدو فكرة قديمة أعيد اكتشافها هنا مرةً أخري عبرك
الغرور المدعى يبدو مثيراً للجدل وللتعاطف في الوقت نفسه
من أكثر الأشياء التي استمتعت بقرائتها مؤخراً
ست الحسن
Post a Comment